تدور منظومة العلوم الإنسانية حول ثلاثة محاور رئيسية، وتندرج تحت هذه المحاور الثلاثة جميع فروع العلوم أيًا كان المشتغل بها.
المحور الأول: يدور حول "الوجود". وهو يبحث في الموجودات وهي ثلاثة: الله (والمعبر عن هذا البحث بقضية الألوهية) والكون والإنسان. والإنسان ولو أنه من الكون، ولكنه انفرد لخصوصيته بعلوم خاصة به دون غيره، حيث أنه المخلوق المكرم في هذا الكون؛ فاستوجب وجوده نشأة علوم تدور حوله دون غيره من الموجودات كعلم الاجتماع أو السياسة أو علم النفس أو غيرها من العلوم المتعلقة بالإنسان، ودراسة هذه الموجودات تدور في إطار ثلاث أسئلة وهي: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟
المحور الثاني: وهو "مصادر المعرفة"، وهو محور قامت حوله مدارس فكرية متعددة، لا سيما في عصر النهضة الأوربية، إلا أن المستقرئ لتطور حركة الفكر الإنساني يجد أن علماء المسلمين قد بدأوا في رصد مصادر المعرفة قبل غيرهم من المفكرين في الغرب بقرون طويلة، فنجد أن الإمام النسفي ينقل هذا في متن عقيدته كاشفًا عمَّا اعتمده العلماء المسلمين في أن مصادر المعرفة ثلاثة وهي: الحس والعقل والخبر.
أما المحور الثالث: فيدور حول "القيم" وتحته مبحثان:
الأول: "الأخلاق" وفيه يجري خلاف طويل بين الحسن والقبيح، (١) بين من أراد أن يرجع الحسن والقبيح إلى العقل حتى من الفرق الإسلامية كالمعتزلة، وبين من جعل هذا الأمر نسبيًا فهو يرجع إلى المجتمع في تحديده، (٢) وبين أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية الذين قالوا إن مصدر التحسين والتقبيح هو الشرع، فما رآه الشرع حسنًا فهو حسن وما رآه الشرع قبيحًا فهو قبيح.
والمبحث الثاني من مباحث القيم هو: "الجمال".
ولا يمكن أن نظن أن هذه الأصول مستقلة استقلالًا كليًا عن بعضها، ولو أن بعض الناس يفنون حياتهم في دراسة فرع واحد من فروع هذه الأصول إلا أنها متداخلة تؤثر في بعضها البعض.
ولا شك أن مبحث مصادر المعرفة هو الذى يؤثر مباشرة في سلوك الإنسان وفي كيفية تعامله مع الأصول الأخرى، ذلك أن الله لما أراد هداية خلقه أرسل "إليهم رسلًا ليرشدوهم!" إلى ما يريد.
فنجد أن الرسل يُبعثون أولًا من أجل قضية الألوهية، ومع هذه القضية يُبعث بعضهم من أجل بعض القضايا الأخلاقية، فهذا لوط عليه السلام جاء من أجل محاربة قضية الشذوذ في قومه، وهذا شعيب عليه السلام يحاول إعادة قومه إلى الأمانة في المعاملة في البيع والشراء. ومن هنا تظهر أهمية هذه القضايا الأخلاقية التي من أجلها أرسل الله بعض رسله، فمن اعتمد على الحس والعقل فقط لم يجد إلى الإيمان الكامل سبيلًا، ففي تلك المجتمعات التي فسدت بالكلية، وتغيرت فيها الفطرة يصعب معرفة الصواب اعتمادًا على العقل فقط، أو أخذًا بالحسِّ فقط، فأصحاب الاعتماد على المحسوس فقط أنكروا وجود الخالق لأنه غير محسوس. أما أصحاب مدرسة العقل، ولو أن بعضهم قد آمن بوجود الله، إلا أن عقولهم تصطدم في كثير من الأحيان في بعض الأمور التشريعية التي تبدو لهم غير منطقية، وهذا سبب ما نراه من حين إلى آخر من إثارة لبعض القضايا الخاصة بالشرع، والتي ينادي أصحابها بتغيير أو رفض بعض مسائله. أما أصحاب الإيمان الكامل فهم الذين اعتمدوا الخبر الصادق مع الحس والعقل كمصدر من مصادر المعرفة، فصدَّقوا الأنبياء فيما أخبروا عن ربهم سبحانه وتعالى فآمنوا وأطاعوا واستقاموا على وَفْقِ ما أراده الله.
ومن هنا نرى أن قضية الإيمان لها تعلق شديد بمصادر المعرفة الإنسانية، فكان تصديق الأنبياء الذين يتلقون الوحى من السماء هو الفيصل الحقيقي بين إيمان من آمن وكُفر من كفر.
وقد جاء وحي السماء إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليرشدنا إلى كيفية إقامة العلاقة بيننا وبين الموجودات كلها، ويضع هذه العلاقة في الصورة التي يرضاها لنا الخالق سبحانه وتعالى. وأجلّ هذه العلاقات هي علاقتنا بالله، فأرشدنا إلى أن هذه العلاقة من جانبه هي علاقة خلق وإيجاد ورزق وإمداد، ومن جانبنا علاقة عبودية بما تحويه من معاني الافتقار والخضوع والطاعة والاستسلام. وهي القضية الكبرى التي شغلت وما زالت تشغل الإنسان في كل زمان ومكان.
فأرشدنا إلى إفراده بالعبادة، ونشأ حول هذه القضية علم من العلوم الشرعية هو (علم التوحيد) والذي يبين لنا ما يجب أن نعتقده في ذات الله، وما يتبع ذلك من اعتقاد فيمن اختارهم الله من الأنبياء والرسل، وكذلك ما يجب أن نؤمن به من أخبار الغيب التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن والسنة الصحيحة مثل الجنة والنار والملائكة والصراط والحوض والميزان...إلخ.
ثم بين لنا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما افترض علينا من عبادات وكيفية إقامتها على النحو الذي يرضي الله عزَّ وجلَّ، وكذلك بين لنا المعاملات من بيع وشراء وإجارة، فنشأ حول هذا الموضوع (علم الفقه) بقسميه: "العبادات والمعاملات". والإخلاص العقيدة واستقامة العبادة والمعاملة كان لابد من تزكية النفس وتطهيرها من العيوب والآفات القلبية. فبيًنها لنا النبي وحذرنا منها لنتعرف كيف نترقى لنأتي الله بقلوب سليمة! ونرتقي من مراتب الإسلام إلى درجات الإيمان، فنبلغ منازل الإحسان ونعبد الله كأننا نراه. فنشأ حول هذا الأمر (علم التزكية) والسلوك وهو المسمى بـ "علم التصوف".
هذه العلوم الثلاثة ( التوحيد - الفقة - التزكية أو التصوف) هي العلوم الضرورية لكل مسلم ليجمع بين صلاح المجتمع في الدنيا وبين حسن الختام في الآخرة. فلو نظرنا إلى عهد النبوة نجد أن هذه العلوم وغيرها من العلوم الشرعية لم تكن قد نشأت بعد أن وضعت لها المصنفات وقسمت إلى أبواب وفصول، إلا أن أفراد المجتمع من آل بيت النبي وأصحابه كانوا يحملون حقائق ومعاني هذه العلوم في صدورهم. فالتوحيد في قلوبهم عقيدة راسخة بأركانه من العبودية الخالصة لله وحده وإثبات الكمالات له، وكمال التنزيه له عن كل نقص، وكذلك كمال التصديق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل ما أخبر مع المحبة والتعظيم له بما يليق به صلى الله عليه وسلم.
أما العبادات والمعاملات فهم أهل الاتباع للنبي في عباداته وأهل المراعاة لأوامر الله في أمور المعاملات يتحرون فيها الحلال الخالص. أما عن التزكية والسلوك وفروع علم التصوف، ففي حين أن هذا المسمى لم يكن قد ظهر بعد، إلا أن مسائل هذا العلم من زهد وورع وتواضع وإخلاص..إلخ. كانت حقيقة جلية فيهم يلمسها كل من صحبهم أو عاشرهم ونقل عنهم. وصدق من قال: "كان التصوف على عهد رسول الله حقيقة بغير اسم وهو في زمننا اسم بغير حقيقة".
فلما أن خلصت عقيدتهم. واستقامت عباداتهم ومعاملاتهم، وتزكت وترقت نفوسهم أقاموا دولة سادت الدنيا ونشروا دين الله في بقاع الأرض.
ومن هنا تظهر لنا أسباب الخلل الذى نعيشه، فهو إما من فساد عقيدة، أو من خلل عبادة، أو اعوجاج معاملة، أو من غلبة هوى أفسد القلوب.
وللحديث بقية.
شارك المحتوي