في طيبة ولسان الحال يقول:
"يا سَيِّدَ السَّاداتِ جِئْتُكَ قَاصِـدًا أرْجُـو رضـَـاك وأحْـتَمِي بحمـاكا
واللَّهِ يـا خـــيرَ الخَـلائِــقِ إنَّ لي قَلْبًا مــشوقًــا لا يَـــرُوم سـواكا
أنت الذي لــوْلَاكَ مَا خُلِقَ امْرؤ كــــلَّا ولا خُـــلِقَ الْـوَرَى لـولاكا
أنت الذي من نُوركَ البدرُ اكْتَسَى والـشَّمْسُ مــشرقةٌ بنـورِ بَهَـاكا
أنت الذي لما رُفِعْتَ إلى السَّــمَا بِكَ قَدْ سَـمَت و تَـزَيَّنَـت لِسَراكا
أنت الذي لمَّـا سـألتَ شفَـاعةً نَـادَاكَ ربُّـكَ لمـن تـَـكُنْ لِسِــوَاكا"
من رحاب طيبة الطيبة، من دار الهجرة، من حرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أكتب هذه الكلمات. جميع الأجناس والألوان جاءت وافدة في ضيافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، تؤدي حق الوفاء لهذا الحبيب الذي ساق الله إلينا الخير كل الخير به صلوات ربي وسلامه عليه وآله. وقد وقفت اليوم أمام الحبيب أسلم عليه فنظرت حولي فرأيت الزائرين الوافدين بشوقهم وبوجدهم والدموع تسيل على وجوه الرجال، والناس تترجم بكل لسان لتظهر محبتها وشوقها إلى هذا الحبيب صلوات ربى وسلامه عليه وعلى آله.
فى المدينة نتلمس خطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونعيش في معيته، ونتأمل. من هنا كان يخرج من حجرته الشريفة، هنا كان يقف خطيبًا، هنا كان يصلي في محرابه الشريف، نكاد نتنسم أنفاسه الطيبة في المكان.
في المدينة نتأمل في عجب، كيف أن هذه الأعداد المتدفقة من الناس ما زالت تتدفق في كل يوم، من جميع بقاع الأرض وعلى مر الزمان لتقف أمام خير خلق الله، ولسان حالي يسأل كيف تعلقت به القلوب على مر الزمان. قرون وقرون تمر وأعداد الوافدين عليه تتضاعف، يأتون محبةً وشوقًا ومودةً للذي أرسله الله رحمةً للعالمين.
ومنذ وصولنا إلى الرحاب قبل المولد الشريف، ونحن نتلقى في كل ليلة دعوة لحضور الاحتفال في بيت من بيوت المدينة، وهم يسمون هذا الاحتفال "المولد"، فنتوجه لتلبية الدعوة وحضور المولد الشريف، فترى أعدادًا من البشر قد اجتمعت لقراءة وسماع سيرته العطرة، وشمائله الشريفة، وترى العلماء والصلحاء والمنشدين كل قد لبى الدعوة للمشاركة في إظهار البِشر والسرور بذكرى قدومه إلى هذه الدنيا، وكيف لا نفرح بيوم كان سببًا في كل خير لنا. ترى السادة الأشراف من نسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، يقيمون هذه الموالد ويحضرونها، وترى كيف أن المسلمين في بلد الرسول وسائر البلدان يوقرون هؤلاء السادة وينـزلونهم منازلهم.
وكما يقول الإمام الغزالي في كلامه أن شرف النسب في ثلاثة أشياء: "الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو شرف لا يدانيه شرف، والإنتساب إلى العلماء وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم العلماء ورثة الأنبياء، والإنتساب إلى الصلحاء لقوله تعالى: "وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا" فهاهم السادة يتصدرون هذه المجالس الطيبة يظهر عليهم من الحشمة والوقار ما يليق بنسبتهم إلى سيد الكونين وإمام الثقلين صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي البقيع، يسير الإنسان في سكينة وطمأنينة وانشراح صدر وكأنه لا يمشي في وسط القبور، نعم فإنها رياض من الجنة، هذا القبر العباسي عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا مرقد الإمام الحسن بن علي سبط النبي وريحانته، وهذه قبور الزوجات أمهات المؤمنين، والعمات أروى وعاتكة وصفية، وهذه قبور البنات الطاهرات زينب ورقية وأم كلثوم، قبور تكاد ترى الأنوار تشع منها، والمسك يفج من تربتها. ووقفنا على قبر الإمام مالك وإلى جواره شيخه نافع، وقبر إبراهيم ابن رسول الله، حليمة السعدية، وفاطمة بنت أسد وعثمان بن عفان رضي الله عنهم أجمعين.
وقفنا في مواضع لا يتمنى الإنسان الموت إلا عندها، و نظرنا قبورًا لا يشتهي الإنسان الدخول إلا إليها. وفي أُحُد، في جوار هذا الجبل الذي يحب رسول الله ويحبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقفنا ننظر إلى جبل من جبال الجنة. ها هي قبور الشهداء، هنا يرقد سيد الشهداء، هنا يرقد أسد الله وأسد رسوله، هنا يرقد حمزة بن عبد المطلب، وإلى جواره مُصعب بن عُمير وعبد الله بن جحش، ومعهم سائر شهداء أُحُد، نقرأ عليهم السلام ونحن على يقين أنهم يردون علينا السلام، فقد شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بأنهم الشهداء، وأنه ما سلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا وردوا عليه السلام. في هذا المكان سالت دمائهم، بل وسالت الدماء الشريف من وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هنا سجلت بطولات لرجال ونساء جعلوا أنفسهم فداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
جلسنا نتذاكر ونتذكر مواقف الأنصار في هذا اليوم، ها هي أُم عمارة تقف تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "من يطيق ما تطيقين يا أُم عمارة؟" النبي يتعجب لحالها، ولكن الإيمان والمحبة في قلبها تطلق لسانها فتبادر "بل أطيق وأطيق وأطيق ولكن أسألك مرافقتك في الجنة".
ما هذا الحب؟ هي لا تسأله الجنة فقط، ولكن تسأله الصحبة فيها، فالمحب المشتاق المتيم بهذا الحبيب لا ترضيه ولا تشبعه جنة لا يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هذه بطولة النساء وهذه محبتهم وهذا فدائهم، فأين نحن معشر الرجال في هذا الزمان من النصرة لهذا النبي ولدينه الذي جاء به؟
ما أحلى الأيام والليالي بالمدينة! في المدينة يشعر الإنسان بأنه في أمان فهو في جوار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحماه، وقد أمره ربه أن يجـير الكافر إذا استجار به، وأن يبلغه مأمنه، فكيف بالمؤمن المحب له إذا نزل في جواره أليس أولى به أن يبلغه مأمنه؟! إن أبا لهب الذي جاء القرآن صريحًا في كفره وعذابه، جاء الحديث يبين لنا أن العذاب مخفف عنه في كل يوم إثنين لأنه فرح بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأعتق الجارية التي بشرته بمولده. ونحن قد عشنا حياتنا فرحين به صلوات ربي وسلامه عليه ونموت بإذن الله على دينه وملته.
يا طيبة، يطيب لنا فيك العيش، ونتألم عند الفراق، على أمل العودة والرجوع إليك. السلام عليك يا سيدى ويا حبيبي يا رسول الله، عن نفسي وعن كل من أوصاني بالسلام عليك.
المدينة المنورة.
شارك المحتوي