الرسالة والرسول ﷺ - الجزء الثاني



مع الرسول والرسالة نعيش، محاولين الاقتراب على استحياء من فهم أو إدراك شيء من معاني خصوصية هذا المصطفى من قبل الحق سبحانه وتعالى ليكون حلقة وصل بين السماء والأرض، وليكون برزخًا بين عالم الغيب وعالم الشهادة. نحاول الاقتراب مقرين بالعجز عن إدراك حقائق خصوصيات هذا النبي العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، فأنى لنا أن ندرك هذا النور الذي أعده الله ليكون مهبطًا لتنـزلات القول الثقيل "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلاً (5)" [سورة: المزمل - الآية: 5]. وليكون محلًا لفيوضات كلامه القديم الذي لا تتحمله الجبال "لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(21)" [سورة: الحشر - الآية: 21]، إلا أننا مع إقرارنا بالعجز عن الإحاطة بكمالات وأسرار خصوصيات هذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أننا نضع الخطى في أثر العلماء الذين وضعوا التصانيف في نشر شمائل هذا الحبيب وأوصافه وأخلاقه وأخباره متقربين بذلك إلى الله ومحاولين ربط قلوب الأمة بهذا الحبيب الكامل الصفات، علمًا منهم بأن هذا هو الطريق لتتبع أثاره الشريفة والاستقامة على منهجه القويم. 
لقد هيأ الله هذا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي هذا القرآن لفظًا ونورًا. وجعل لسان هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو محل تيسير هذا القرآن فقال "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (97)"  [سورة: مريم - الآية: 97]. فجاء جبريل الأمين عليه السلام ليبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللفظ والحرف، وهذا هو الذي يطلق عليه علماء التوحيد (الدال) أي الظاهر، أو بمعنى آخر الحروف والألفاظ العربية التي تشير إلى كلام الله القديم، أما كلام الله فهو صفة قائمة بذاته قديم بقدم الذات وعنه يقول علماء التوحيد: وأعلم أن الكلام ليس بالحروف وليس بالترتيب كالمألوف وهذا الكلام وهذه الصفة هي ما يطلق عليه العلماء المدلول، وهذا القرآن هو الذي عُذِّبَ الإمام أحمد بن حنبل ليقول أنه مخلوق فلم يفعل.
فأعد الله رسوله ليتلقى هذا القرآن لفظًا فجعله أفصح العرب لسانًا وأتاه جوامع الكلم، كما أعده ليتلقى حقائق وأسرار وأنوار وتجليات هذا الكلام فجعله صلى الله عليه وآله وسلم نورًا ووصفه بأنه نور فقال "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ(15)" [سورة: المائدة - الآية: 15]. ليكون بصفته النورانية مهيأ لتلقي أنوار القرآن ويمتزج بها، فيكون هو في ذاته قرآنًا منظورًا، أي يكون مظهرًا لهذا القرآن في هذا الوجود. فالقرآن لم ينزل على رسول الله ألفاظًا فقط وعاها النبي وبلغها، ولكنه كان صبغة نورانية قدسية نزلت فصبغ بها النبي صلى الله عليه وآله. والصبغة كما هو معلوم تختلط بالمصبوغ فتكاد لا تفرق بينهما فلما نزل نور القرآن على نور النبي العدنان اختلط هذا النور بذاك النور فقال الحق: "نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ" ثم قال: "يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ" ولم يقل لنوريه إذ أن النورين صارا نورًا واحدًا، فوصف بأن خلقه القرآن ووصف بأنه قرآنًا يمشي على الأرض. وبذلك كان النبي صلى الله عليه وآله خزينة الأنوار الإلهية في هذا الوجود ولما كانت الوراثة في العترة الطاهرة بين لنا أن العترة والقرآن مقترنان لا يفترقان إلى أن يردا عليه الحوض إذ هم ورثة هذه الصبغة المحمدية النورانية وأمرنا صلى الله عليه وآله أن نلزمهم وأوصانا أن نرقب صلتنا بالله فيهم. 
وهذا أيضًا من عطايا الحق لنبيه واستمرارًا لسنة الميراث في الأنبياء إذ كان كل نبي من أنبياء بني إسرائيل يرث نبيًا فورث سليمان داوود عليهما السلام، ودعا سيدنا زكريا أن يهبه الله غلامًا يرثه ويرث من آل يعقوب فأعطاه يحيى. فلما رأى أعداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يفقد أولاده الذكور قالوا عنه أنه أبتر أي مقطوع العقب إشارة إلى انتهاء دعوته حيث لا وارث. فجاء الحق سبحانه لينفي ذلك بقوله: "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ" فأعطاه أهل بيته وورثة علمه ولكنهم ليسوا بأنبياء إذ النبوة ختمت به فقال للإمام علي: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي[1]". فجاء بعد ذلك الأئمة من آل بيت رسول الله بهذه الصبغة المحمدية علمًا ونورًا وخلقًا يحملون نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم  ويهدون بأمر الله. 
وهذا من عطاء الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ويقف بعض الناس بعقولهم قاصرين حتى عن الاعتراف ببعض الخصائص النورانية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك كما قلنا من قبل إما لضعف إيمانهم وهذا صنف من الناس، أو لتحكيم عقولهم ومنطقهم الخاص وهذا صنف أخر، وإما لقياسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غيره، وهذا قصور في إدراك معنى الخصوصية وهو قياس مع الفارق، إذ له من الخصائص ما ليس لغيره ولو أنه بشر تجري عليه الأعراض البشرية بلا حرج في ذلك، وليس في ذلك انتقاص لقدره العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، وصنف رابع يقول: أن في ذلك مبالغة وغلو في مدحه، وهذا الكلام مثير للشفقة حقيقة، إذ الغلو هو إخراج الشيء عن حده وإعطائه فوق قدره. 
فنقول للذي يقول أننا نبالغ في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قل لنا ما هو حده وأين منتهى قدره حتى نقف عنده. ولكن قبل أن تسارع بالإجابة توقف عند معنى صلاة الحق على نبيه دوامًا سرمدًا وآثار هذه الصلاة عليه. وتمعن في معاني ارتقائه جسدًا وروحًا فوق السماوات العلى وما يستوجبه ذلك من تهيئة ظاهرة وباطنة، فأين أحكام علوم الطبيعة وأثر هذا الارتقاء على بشريته التي يحتج بها لتمنع المداح من مدحه، أو لينكر بعض خصوصياته التي يضيق صدره بها. 
مما لا شك فيه عند أهل العرفان، ولا عبرة عندنا بقول أهل الجحود والنكران، أن نورانية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إنما أُعدت إعدادًا خاصًا لمهمة خاصة لا يشاركه في هذه النورانية أحد من خلق الله. وأن هذه النورانية تطلبت إعداد صورته البشرية إعدادًا يليق بما حمل من نور النبوة ونور الرسالة. ولذا فإننا يجب أن ننظر نظرة شاملة للنصوص فلا نقف مثل من يفعل عند بعض أجزاء الآيات التي تناسب فهمه ليحتج بها، مثل من يقف كلما ذكرت خصوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يستوعب فهمه احتج وقال: "قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ"،  يقف عند جزء الآية ولكنه إذا أكمل وجد أن الله يقول: "يُوحَى إِلَيَّ"، وقد يكمل الإنسان القراءة ولكن يتوقف الفهم، فلا يتصور ما يحتاجه هذا الوحي من تهيئة خاصة لهذا الحبيب، وما أفاض الله به عليه من عطاء ومن سعة روحية، تليق بمن جعله الله مظهر الرسالة في هذا الوجود وجعله حلقة الوصل بين العباد والمعبود. 
ومما يبين طرفًا من هذا المعنى ما أشار إليه في خصوصيته ببعض العبادات التي لا يتحملها غيره صلى الله عليه وآله وسلم مثل الوصال في الصيام إذ رآه بعض أصحابه يوصل الليل بالنهار في الصيام ففعلوا مثله فظهر عليهم أثر ذلك من الإعياء فلما سألهم وأخبروه بما فعلوا نهاهم عن ذلك وقال "إني أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني[2]" فما هذا المبيت وأين هذه العندية؟ أسرار خص الله بها نبيه وأفاض عليه بها أثرت في ظاهره بما جعله يستغني في هذه الليالي عن الطعام والشراب، أي أن الفيض النوراني من الله لنبيه الكريم كان له أثر على بشريته فهي بشرية خاصة بما حملت من النور والتجلي الإلهي. 
ولا ينافي هذا أنه كانت تجري عليه في أوقات أخرى أعراض البشرية، فيربط الحجر والحجرين على بطنه الشريفة من شدة الجوع. وطرف أخر من معاني نورانيته ما أشرت إليه في مقال الجمعة الماضية إلى أمر النبي إلى أصحابه وهو يعلمهم الصلاة فقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي[3]"، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أوتي جوامع الكلام، وهذا يعني أن كلامه منضبط لا زيادة فيه ولا نقصان عن الحاجة، فلو كان المراد أن تكون صلاتنا مثل صلاته من كل وجه ظاهر وباطن لقال: (صلوا كما أصلي) وللزم أن نوافق بصلاتنا صلاة النبي في كل شيء بما في ذلك حضوره وصلته بربه وعروج روحه في صلاته وهو ما لا نطيقه، إذ لم نتهيأ لما هيئ له صلوات ربي وسلامه عليه وآله. 
ولكنه قال"كما رأيتموني" فجعل صحة الصلاة في موافقة هيئته الظاهرة في الصلاة من وقوف وتكبير وقراءة وركوع وسجود إلى آخر أفعال الصلاة وأقوالها، أما من كانت له رؤية بنور البصيرة لبعض أحوال النبي النورانية في الصلاة فعليه أن يتبعه فيها، ومن هنا يبدأ المؤمن في الارتقاء بعبادته من أفعال ظاهرة مجردة إلى حقائق باطنة نورانية تحقق معاني الصلة بالله من خلال كمال الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. 
إن محاولة الارتقاء بالنفس عن طريق إقامة الصلة بهذا النور الذي أُهدي إلينا، بل الذي منّ الله به علينا حيث قال: "لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ(164)"سورة آل عمران، هذه الصلة هي التي تزكي نفس المؤمن وتوصله إلى طريق الفلاح، والانقطاع عن هذه الصلة يجعلنا نري ما نراه من إقامة مظهر الدين دون الولوج إلى أنواره وأسراره الروحية التي تعيد صياغة نفس المؤمن فيرتقي في معاني التزكية، ويسير في طريق التخلية والتحلية، التخلية من كل حال وفعل وخُلق دنيء والتحلية بكل حال وفعل وخُلق سني.

[1] أخرجه البخاري (24/5) ومسلم.
[2]برقم 1103  أخرجه مسلم (514/11)
[3] أخرجه البخاري في صحيحه برقم (640) ومسلم (722)


شارك المحتوي