العترة الطاهرة



ما عرف تاريخ الإنسانية مفارقة في التعامل مع أحد أكثر مما جرى مع آل بيت النبي صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم. فما كان في البشرية ولن يكون نسل أكرم أو أطهر من هذا النسل، ولم ولن يكون هناك قرابة أولى بالرعاية والمودة من قرابة رسول الله -صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم- ومع ذلك نرى في تاريخ هذه الأمة وحاضرها تعديًا واضحًا وسافرًا على حقوق هذه العترة المطهرة، بل ونرى في تاريخنا ظلمًا وبطشًا لسنوات عديدة ما أظنه وقع لغيرهم على مر سنوات طويلة تعرضوا فيها للإيذاء والتشريد.

ولست هنا بصدد سرد بعض ما جرى لهم من اضطهاد وإن كان من المهم للأمة أن تقرأ تاريخها وتعرف حقائقه، فقراءة التاريخ هي باب العبور للمستقبل، ولكن أودُّ هنا أولًا كتابة كلمات في فضائل العترة المطهرة أتقرب بها إلى الله ورسوله، وثانيًا أحاول أن ألقي بعض الضوء على مناقب قوم، تم التعتيم عليها حتى أصبحنا في طوفان هذه الحياة لا نعلم عنهم شيئًا.

وتجدر هنا الإشارة قبل أن نستعرض بعض ما قاله رسول الله -صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم- في حق أهل البيت أن نفهم أن النبي -صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم- إذا تكلم فهو لا ينطق عن الهوى بل هو المبلغ عن ربه فيما أراد، ثانيًا أن حبه لآل البيت ليس كحبنا لأبنائنا، فنحن نحب أبناءنا حبًا فطريًا، أما الحبيب، فإنه قد امتلأ بحب مولاه، وحبه للخلق تابع لهذه المحبة، بمعنى أن حبه لآل بيته دلالة على حب الله لهم وهو ما أوضحه - صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم- في أحاديثه.

الأمر الثالث الذي يجب أن نشير إليه هو أن إخبار النبي لنا بفضائلهم وثمرة محبتهم يجب أن نتبعه وواجب علينا، وإلا كان كلامه لغوًا لا سبب له، وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام.

ذكر الشيخ الصبان في كتابه "إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى وفضائل أهل بيته الطاهرين" حديثًا في طهارة هذه العترة فقال: روي من طرق عديدة صحيحة أن رسول الله -صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم- جاء ومعه علي وفاطمة وحسن وحسين، قد أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل، فأدنى عليًا وفاطمة وأجلسهما بين يديه وأجلس حسنًا وحسينًا كل واحد منهما على خذ، ثم لف عليهم كساء ثم تلا هذه الآية: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا". وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا[1]". وهذا حديث من جملة أحاديث في تطهير المولى لهذه العترة وإظهار سيماهم وعلو قدرهم عند الله عز وجل.

إنها السياسة والحكم والسلطة والمصالح الدنيوية الفانية التي حذرنا منها النبي فقال: "ولكن أخشى عليكم الدنيا[2]" كما حذر من الإمارة وأخبرنا أننا سنطلب الإمارة ثم تكون علينا حسرة يوم القيامة.

فقد نازعوا الإمام علي في ولايته، هذا الإمام الذي قال عنه النبي: "علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي[3]". وقال فيما رواه الترمذي عندما جاء بعض أصحاب النبي يعترضون على فعل علي كرم الله وجهه، فأقبل رسول الله والغضب يعرف في وجهه فقال: "ما تريدون من علي؟ -ثلاثًا– إن عليًا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي[4]"

ومضت السنون حتى كانت فاجعة كربلاء والتي أظهرت فيها كلمات قائد جيش يزيد بن معاوية، كيف يمكن أن تتسلط الدنيا على قلب الإنسان حتى يسير إلى النار بقدميه! وهذا حين جاء يزيد بن حصين الهمداني قائلًا لعمر بن سعد:"هذا ماء الفرات يشرب منه الكلاب والدواب وتمنعه ابن بنت رسول الله -صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم- وأولاده وأهل بيته والعترة يموتون عطشًا وقد حلت بينهم وبين الماء وتزعم أنك تعرف الله ورسوله"، فإذا بعمر بن سعد يطرق ويقول يا أخا همدان إني أعلم ما تقول وأنشأ يقول:

"دعاني عبيد الله من دون قومه           إلى خصلة خرجت فيها لحيني

فوالله لا أدري وإنــــــي لواقف          على خــطر لا أرتـــضيه لديني

أأخذ ملك الري والـــري بغيتي        وأرجع مطــــلوبًا بـــــدم حسين

وفي قتله النـــار التي ليس دونها        حجاب وملك الــــري قرة عيني"

 

وهذه إشارة إلى وعد عبيد الله بن زياد له بإمارة الري إذا هو قتل الحسين وعترته. كيف تتسلط هذه الدنيا وزخارفها، فتجعلنا نسير إلى الباطل ونحن ندري؟

هذه السياسة والمنازعة على الحكم هي التي حملت إلى القيام بعمليات تعتيم على سيرة العترة المطهرة، حتى إن عليًا وفاطمة يسبان على المنابر، ومنع الناس عن موالاتهم، بل أمر العلماء ألا يكتبوا أو يتكلموا في فضائلهم.

ما أحوجنا إلى الرجوع للوقوف علي هذه السيرة العطرة محاولين إقامة روابط المودة التي أشار إليها قوله تعالى: "قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ" عسى أن نكون ممن قال فيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- مشيرًا إلي الإمامين الحسن والحسين:"من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي في الجنة[5]" رواه أحمد. وهذه الأحاديث قد جمعت في مؤلفات صنفها وجمعها علماء أفاض الله عليهم بمحبة آل البيت، وحفظ مودة النبي في قرابته مثل الكتاب الذي ذكرناه، وكتاب "نور الأبصار في مناقب آل البيت المختار" للشيخ الشبلنجي رحمه الله، كما كتب الشيخ النبهاني رحمه الله كتابًا مانعًا سماه"(الشرف المؤبد لآل محمد"، وجمع الإمام النسائي صاحب السنن مؤلفًا سماه "خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب"، وغيرهم من الأئمة الأعلام جمعوا في فضائلهم ما جمعوا، ولعل السائل يقول إن أمر فضلهم لا خلاف عليه ولكن ما شأننا نحن بهم؟ وهنا يأتي الأمر التالي الذي نود توضيحه وهو أن إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفضلهم قد يكون لمجرد بيان هذا الفضل، ولكن إذا أوصانا بمحبتهم بل أوصى من هو خير منا بذلك وهم أصحابه، وجب علينا أن نقف ونتسائل أين نحن من هذه الوصية؟

فقد روى الإمام مسلم في صحيحه في كتاب "الفضائل" في فضائل علي بن أبي طالب عن يزيد بن الأرقم قال:

قام رسول الله -صلى اللَّه عليه وسلم- يومًا فينا خطيبًا بماء بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين لأولهما كتاب اللَّه فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به[6]" -فحث على كتاب الله ورغب فيه - ثم قال: "وأهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي، أذكركم اللَّه في أهل بيتي[7]".

فإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي ويذكر بكلمات موجزة غاية في البلاغة فيقول: "أذكركم اللَّه في أهل بيتي" فيتضح لنا أن لمحبتهم ومودتهم شأنًا عظيمًا في قربنا من الله سبحانه، وانظر كيف أن الحبيب قد قرنهم بكتاب الله في حديثه، وأمرنا بل أمر أصحابه من قبلنا أن يتمسكوا بعده بكتاب الله وبعترته الطاهرة.

ومن هذا ما أورده الثعلبي في تفسير قوله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا" عن الإمام جعفر الصادق أنه قال: (نحن حبل الله) فبعد هذه الوصية ماذا جرى وكيف وصلنا إلى ما نحن فيه الآن حتى نكاد لا نرى من يعرف عن أهل البيت شيئًا أو يحفظ لأهل البيت حقًا.

كيف لا يدور بخلد المسلم أن يسأل نفسه من هم الذين نصلي في ختام صلاتنا إذا قلنا "اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد" كيف نصلي عليهم في كل صلاة دون أن نعرف من هم؟ ولم يأمرنا الله بالصلاة عليهم؟ وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله:

"يا آل بيت رسول الله حبكم              فرض من الله في القرآن أنزله

كفاكمُ من عظيم الفخر أنكم            من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له"

 



[1] أخرجه الترمذي،(3205)

[2] رواه البخاري (4042) ومسلم (2296) (30).

[3] رواه مسلم، (2404) )(31). " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليّاً رضي الله عنه، فقال: أتخلفني في الصّبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ غير أنه لا نبي بعدي"

[4] أخرجه الترمذي (3712).

[5] رواه أحمد في الفضائل (1185).

[6] أخرجه مسلم (4425).

[7] أخرجه مسلم (4425).


شارك المحتوي