عودة إلى العترة الطاهرة - الجزء الثاني



ما زلنا مع آل البيت، سفينة النجاة في بحر هذه الحياة، عجبًا لأقوام أطلقوا على المحبة غلوًا، وعلى الموالاة والتوسل إلى الله بأحب الخلق إليه مبالغة وشركًا، إن قلوبًا لا تعرف حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالبيوت الخربة، حق لأصحابها أن يبكوا عليها. وقد روى جماعة من أصحاب السنن عن عدد من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك[1]" وفي رواية "غرق"، كما أخرج ابن سعد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "استوصوا بأهل بيتي خيرًا فإني أخاصمكم عنهم غدًا، ومن أكن خصيمه أخصمه الله ومن أخصمه الله أدخله النار"، فكيف بعد ذلك يهنأ لمؤمن ألا يتحرى مودتهم ويسلك طريق محبتهم. 

وقد ذكرت في المقالين السابقين طرفًا من سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه، وكيف لنا أن نحصي فضائل هذا الإمام، ولكن كما ذكرت إنما هي نسمات طيبة من سيرة عطرة نتقرب بها إلى الله، ومتوددون بها إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم بنشر بعض أخبار العترة الطاهرة عليهم جميعًا سلام اللَّه. 

وقد كان رضي اللَّه عنه يستبطئ الموت ذلك أن النبي قد بشره بأنه سيقتله أشقى الآخرين فكان يقول رضي اللَّه عنه: "والله لوددت أن لو انبعث أشقاها"، ولذا كان إذا عاده أحد في مرضه أو تخوف عليه يقول لهم أنه لن يموت من مرضه، ولكنه ينتظر الذي يضربه على رأسه فتخضب لحيته بالدماء كما وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا نريد أن نقف وقفة لنتأمل أهل البيت الأطهار، وسلالة المصطفى المختار، ماذا جرى لهم؟ الإمام يقتله عبد الرحمن بن ملجم عليه لعنة الله، بعد سنوات من الجهاد والثبات، خرج عليه من خرج وظلمه من ظلم، وهو من هو!

الإمام الحسن بن علي يموت بالسم وهو السيد الذي أصلح الله به بين فئتين من فئات المسلمين كما بشر جده صلى اللَّه عليه وآله وسلم. الإمام الحسين وما جرى في كربلاء، وغيرهم من السادة الذين ماتوا بالسم أو قتلوا. كل هذا يبين لنا قدرًا عجيبًا من البغض والحسد لهؤلاء السادة الأئمة الأعلام، فهل يدعي قاتلهم بعد ذلك أنه محب لجدهم صلى الله عليه وآله وسلم، أو يطمع في شفاعته، أو يعد نفسه من أمته. هيهات، ولله در الفرزدق وهو يقول واصفًا الإمام السجَاد علي بن الحسين الملقب بـ "زين العابدين": "من معشر حبهم دين وبغضهموا كفر   وقربهم منجى ومعتصم"

 

فإن كان هذا قد جرى في الصدر الأول، والقوم ما زالوا قريبي العهد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا عجب أن نرى في زماننا هذا أقوامًا يصدون الناس عن مودة أهل البيت بحجة المغالاة، أو يمنعون الناس عن زيارة مشاهدهم والتبرك بآثارهم بحجة أن هذا من الشرك، ويـفعلون فعل الخوارج في تأويل آيات نزلت في حق المشركين، فيحملونها على المؤمنين بتأويلات فاسدة، ما سبقهم بها أحد من الأئمة الفقهاء.

واليوم نذكر نذرًا يسيرًا من فضائل السيدة "فاطمة البتول" سيدة النساء وبضعة الرسول. فاطمة عليها السلام هي الرابعة من بنات النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بعد زينب ورقية وأم كلثوم. وقد روى أبو داود والطبراني في الكبير والحاكم والترمذي عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى اللَّه عليه وآله سلم قال: "أحب أهلي إليَّ فاطمة"، وروى أحمد والبيهقي عن ثوبان قال: "كان رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا سافر آخر عهده إتيان فاطمة، وأول من يدخل له صلى اللَّه عليه وآله وسلم إذا قدم فاطمة". 

هذا إنما يظهر مدى محبته لها، وهنا يجب أن نعلم أن حب رسول الله الخاص لفاطمة إنما هو بوحي من الله تعالى ولمعرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدرها وشرفها عند الحق سبحانه، هذا الشرف الذي يعرفه من يعرفه، ومن لم يعرفه في الدنيا شهد هذا الشرف وسمع به يوم القيامة. إذا قال النبي: "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من بطنان العرش يا أهل الجمع نكسوا رؤوسكم وغضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد على الصراط[2]" وفي رواية إلى الجنة. 

وقد كانت رضي اللَّه عنها أشبه الناس كلامًا وحديثًا برسول الله كما قالت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي اللَّه عنها، وقد روى الطبراني وغيره بإسناد حسن عن علي، أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قال لفاطمة: "إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك[3]"، وقد كانت مع شرفها ونسبها تعيش في ضيق من العيش، لم تتوسع في مسكن أو ملبس، زاهدة في الدنيا، طامعة في الآخرة، وفي هذا تنبيه للقلوب الغافلة الحريصة على هذه الدنيا الزائلة. 

ولنسائنا في هذه السيدة أسوة حسنة، كيف أنها قد آثرت الآخرة على الدنيا، ورضيت بضيق العيش وتجرعت مرارة الدنيا من أجل نعيم الآخرة، وأبوها صلى اللَّه عليه وآله وسلم يأتيه خمس الغنائم فيوزعها وهو في مجلسه، ولا يواسيها بشيء منها ليدخر لها أجرها إلى يوم القيامة. 

نعم إذا أردنا أن نبرز لبناتنا القدوة والمثل فليس هناك أكرم من هذه البتول الطاهرة التي إن أردنا أن نعَلم بناتنا كيف تكون الابنة، قصصنا لهن أخبارها مع أبيها، وإن أحببنا أن نرى كيف تكون الزوجة، فلنسأل عن ذلك الإمام علي وكيف كانت له البتول، وعن الأم الحنون فلنسأل الإمامين الحسن والحسين عن أشرف وأعظم أم كيف كانت؟ 

إن خلو حياة نسائنا وبناتنا وقلوبهن من الارتباط بالقدوة الحسنة المتمثلة في الزهراء وأمهات المؤمنين ونساء الصحابة، قد جعل هذه القلوب تمتلئ بما مُلئت به من تعلقات بزخارف هذه الدنيا الفانية التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة. وقد أسرعت السيدة فاطمة رضي الله عنها اللحاق بأبيها بعد أن بشرها وهو على فراش موته، بأنها أول أهل بيته لحوقًا به فسرها ذلك واستبشرت به.

عجبًا لكم يا أهل البيت! كيف تسبشرون بالموت والخلق جميعهم يجزع منه. حقًا إن المتابع لأحوالهم وسيرهم العطرة لا يتوقف عن التعجب، فأحوالهم غير أحوال الناس، لا يتوقفون عن إثارة إعجاب العدو قبل المحب. ونحمد الله أن جعل أهل مصر من أهل الوسطية في صلتهم بأهل البيت، وقد أعجبني وصف مصر وأهلها بأنها سنية المذهب شيعية الهوى. نعم المذهب مذهب أهل السنة، والتفقه على المذاهب الأربعة المعروفة، والقلوب تعشق أهل البيت وتتشيع لهم، أنا أقصد بذلك التشيع بمعناه اللغوي لا معناه الاصطلاحي. 

هذه الوسطية التي كما ذكرنا من قبل جعلت من حب أهل البيت منهجًا وسبيلًا إلى الله، ولم تجعله سيئًا لبغض أحد من أصحاب النبي الكرام رضي اللَّه عنهم أجمعين. أما من يهواه الشاربون من نبع الفتنة من اتهام المحبين لأهل البيت بالبدع والطعن في عقائد العوام من المسلمين والسواد الأعظم من الناس بدعاوى باطلة ردها أهل العلم في مصنفات فندت كلامهم، فهذا ميراث ورثوه عن أسلافهم من أهل الحسد لأهل البيت على ما أتاهم الله من فضله. كيف لا وهم يحرمون السفر بنية الزيارة لرسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، ويدعون أن المسافر عليه أن يقصد بسفره زيارة المسجد وإلا كان آثمًا. وقد رد هذا الكلام الأئمة الأعلام من شيوخ المذاهب الأربعة وعلى رأسهم الإمام السبكي رحمه الله في كتابه "شفاء السقام" الذي أطلق عليه في أول الأمر"شن الغارة على من أنكر أحاديث الزيارة" إلا أن القلوب التي أشربت الفتنة وملئت جفوة لرسول الله تستعذب هذا الكلام وتروجه.

 

نسأل الله أن يديم علينا حب رسول الله ومودته وأن يرزقنا زيارته.

 



[1] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 3 برقم (2637).

[2] أخرجه الحاكم في المستدرك.

[3] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم (182).


شارك المحتوي