عقيلة بنـي هاشـم



كنت قد نويت أن أستفيض في تفصيل بعض ما أجملته في مقالي الأخير عن العقل، وعن قيمة هذا العقل وإدراكه لمراد الله منه. غير أني لم أتمكن من ترك هذه الذكرى العطرة تمر، والتي يحتفي بها أهل مصر دون أن أعطر قلمي وأنير فكري بالإشارة إليها والكتابة عنها، ألا وهي الذكرى العطرة للاحتفاء والاحتفال بمولد السيدة زينب رضي اللَّه عنها

والسيدة زينب لها في قلوب أهل مصر المكانة العليا، ولها في نفوسهم القدر الذي لا ينكره إلا أهل الجحود. وهي ومنذ أن حلت بركاتها في مصر قبلة لجميع المحبين لسيد المرسلين صلى اللَّه عليه وآله وسلم، فلا ينقطع عن زيارتها أهل المودة محققين قول المولى عز وجل "قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ۗ(23)" سورة: الشورى. 

وقد جعل الله لهم هذه المودة وهذا الاتصال في قلوب أهل الإيمان الذين يتنسمون في رحابهم نسائم جدهم الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه. والسيدة الطاهرة عليها رضوان الله وسلامه مظهر من مظاهر الإيمان والثبات في تاريخ الأمة، ويكفيها ما مرت به في حياتها وهي ثابتة صابرة محتسبة شاكرة لربها، لا ترى ما ينـزل بهم إلا خيرًا ساقه الله إليهم.

تفقد الجد الحبيب الحنون الشفوق سيدنا محمد صلى اللَّه عليه وآله وسلم، ويا لها من مصيبة!! أي فقيد هذا؟ وهو سيد الخلق وحبيب الحق، هل لنا أن نتصور بيت النبوة وهو مليء بنور رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم، يكلمهم ويكلمونه، يجالسهم ويداعبهم، وإذا بهذا النور يغيب عن عالم الحس، هل لنا أن نتصور حال بيت النبوة وقد غاب عنه سراجه المنير. يا لها من فاجعة!! 

ويأبى الزمان أن تمر الأيام دون أن تتوالى المصائب على أهل البيت، ليكونوا في ذلك رمز ومثل، وتكون حياتهم سلوى لكل مكروب، فما أن تمر الشهور القليلة، وما كادت زينب الصبية الرقيقة تستوعب غياب جدها صلى اللَّه عليه وآله وسلم، حتى تفقد الحنان الذي كانت تلتمس فيه عوضًا عن فقدان الجد صلى اللَّه عليه وآله وسلم، ما كادت الأيام تمر حتى غابت الزهرة التي كان شذاها يعوض أهل بيت النبوة عن غياب رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم. لقد ماتت فاطمة الزهراء!! لك الله يا زينب، لقد كتب عليك أن تصيري سيدة أهل بيت النبوة وأنتِ مازلتِ في مراحل الصبا. 

وتشب زينب في كنف أبيها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، وفي عناية ورعاية شقيقيها الإمامين الحسن والحسين، فإذا بالصبية تملأ بيت النبوة عطفًا وشفقة لتعوض غياب أمها الحنون الزهراء البتول. وتحيا في جوار أبيها وتكابد معه ما كابده كرم الله وجهه، من حياة ملئت جهادًا من هنا إلى هناك، ولكنه في خضم هذه الحياة، وبين أمواج الفتن المتلاطمة من الجمل إلى صفين إلى النهروان لم ينسَ الإمام عليّ أن يشمل أبنائه من العترة الطاهرة بعين رعايته وأن يضمهم إليه مربيًا ومعلمًا ومرشدًا. 

فهم بقية النبوة، وهم ورثة الفتوة، فنشأت زينب مع الحسنين أئمة لأهل التقى والورع والعلم والزهد. نشأوا وشبوا بين الناس ينشرون الدين حالًا ومقالًا، فهم مظهر هذا الدين على وجه التحقيق وورثة سيد المرسلين بلا شك ولا ريب.

وبعد حياة الجهاد والنصرة لهذا الدين، يموت الإمام علي شهيدًا كما بشره رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم، وتتوالى الأحزان، لك الله يا زينب!! وما هي إلا مدة يسيرة حتى يموت الحسن مسمومًا، والسيدة الطاهرة تعيش لتفقد عزيزًا وراء عزيز، إن جبل الصبر لا يتزعزع، لك الله يا زينب!! ثم كانت كربلاء، وما أدراك ما كربلاء؟ هل يمكن أن تضيق الأرض بخيرة أهلها؟ هل يمكن أن تتكالب الأمة على أبناء نبيها؟! ولكنها إرادة الله. فكان يوم عاشوراء، ونساء بيت النبوة في كنف عقيلة بني هاشم، وقلبها مع شقيقها الحبيب، بقية النبوة وسبط رسول الله. وجرى ما جرى في كربلاء، فإذا بالسيدة زينب بنت الزهراء، بنت عليّ، حفيدة النبي تُحْمَل مع نساء بيت النبوة في مشهد يخجل منه الزمان، نساء بيت النبوة أسارى؟! وتمر زينب تنتظر أخوها الحبيب مدرج في دمائه، شهيدًا فتصرخ صرخة استغاثة، "واه محمداه، هذا حسين بالعراء، مقطع الأعضاء!! ثم ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان". يتقربون إلى الله بأرواحهم، ولم لا وهم أهل ذلك.

وتعود إلى مصر، ونعود إلى المولد لنخرج من هذه الشجون، ونتسائل كيف تكون ذكراهم مملوءة بهذه البشر، وهذه المظاهر من السرور، ونحن نرى على الجانب الآخر أقوامًا يحيون ذكراهم بلطم الخدود وشق الجيوب؟! 

وتأتي الإجابة على لسان أحد إخواني من شيوخ القدس حررها الله من دنس اليهود، وقد حضر معنا احتفالنا بعقيلة بني هاشم فطلبت منه أن يلقي كلمة في هذه المناسبة، فإذا به يبين هذه المسألة فيقول إن حالنا في احتفالنا بآل البيت إنما هو نابع ومستمد من أحوالهم، فقد وصف الله أهل الشهادة قائلًا "فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ(170)" سورة آل عمران.

ولذا فإن الفرحة تعم قلوبنا في موالدهم، ووصف الله أهل البيت قائلًا "وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَىَ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً(8)" سورة الإنسان. وها هي الموائد تمد في موالدهم لإطعام الزائرين وعابري السبيل. فلم نلطم خدًا ولم نشق جيبًا ولم نفعل ما يفعله غيرنا من مظاهر الجزع. 

الحمد لله الذي أكرم أهل مصر بحب آل البيت، ورضي الله عن السيدة زينب وعن آل بيت رسول الله أجمعين وأدام هذه المحبة التي لا يصرف المحبين عنها قول قائل ولا جحود جاحد.


شارك المحتوي