في التوقيت نفسه من العام الماضي، نهاية شهر ربيع الثاني كتبت، وها أنا لا أملك إلا أن أعاود الكتابة، وإن مد الله في عمري فكنت من الأحياء فسأكتب في العام المقبل.
كتبت وأكتب وسأكتب عن أمواج المحبة المتلاحقة في بحار آل بيت رسول الله، فقد انقضى في الأسبوع الماضي الاحتفال بذكرى مولانا الإمام الحسين بن علي عليه سلام الله.
توافدت حشود المحبين من مشارق الأرض ومغاربها، وأتت جموع الزائرين من شمال مصر وصعيدها، تجدد معاني المودة لسبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وريحانة البتول، السيد المقدام الحسين الإمام. قد ترى عين الإنكار ما ترى في هذا الأمر، غير أن العقل يقف متحيرًا، كيف خلدهم الله في قلوب أحبائهم، وكيف رفع ذكرهم بين الناس؟
تمر الأعوام تلو الأعوام وحبال المودة تتواصل، وعهود الموالاة تتجدد، والمواثيق على دوام المحبة والنصرة تبرم، ولا رجاء للمحب ولا أمل له إلا أن يلقاهم على حوض جدهم صلى اللَّه عليه وآله وسلم. عليك سلام الله يا إمام، إن كان الناس قد خذلوك، وتقاعس عن نصرتك من بايعوك، فإن الله قد شيد لك في قلوب المؤمنين مكانة كالطود الشامخ. لقد جُدت بروحك مختارًا راضيًا يا سيد شباب أهل الجنة، إلا أن دمائك الزكية التي سالت قد روت أشجار الحب في قلوب المؤمنين، فأثمرت ثمارًا يانعة باقية ببقاء هذا الدين، ثمار اتباع واقتداء بكم، وكأن قلوب المحبين في كل محفل من محافلكم، وهي ترفع راياتكم عالية خفاقة، تقول بلسان الحال والمقال ما أنشده العارف بالله، الولي الصالح، الشيخ صالح الجعفري:
"رضـينا يــا بني الــزهرا رضـينا بحب فيكمو يُرضي نبينا
رضيـــنا بالنبي لـــنا إمـامـًـا وأنـتـم آلـه وبـكم رضينا
وبالسبط الـحسين كذا أخــوه وحـيدر ثـم زيـن العابدينا
وزيـنب مــن لـها فضل سمى ســلالة أحمد في الطيبينا
لـها نـور يضيء كـمثل شمس من المـختار نشهده مبينا".
نعم، فوالله قد جاءت وفود الزائرين بحبها وودها، وقد ارتضتكم لها أئمة، وكيف لا وأنتم خيار الأمة، وبقية النبوة، القرآن في بيتكم نزل، والسنة من بيتكم خرجت، والسيرة سيرتكم.
والحق أن المطالع لسير أهل البيت، المتأمل في أحوالهم لا يملك إلا أن يتوقف متعجبًا، لا يملك إلا أن يترحم متسائلًا، هل يمكن أن يكون هناك بشر بهذه الأوصاف؟ هل يمكن أن تجتمع كمالات الأخلاق والأحوال بهذه الصورة العجيبة في الجنس البشري؟ والأعجب أنها تبرز متواصلة متواترة في بيت واحد.
إن سألت عن الجود فهم له عنوان، وإن سألت عن التواضع فهو لهم سجية، وإن سألت عن العلم فهم ورثة علم النبوة، وإن سألت عن الشجاعة فهم أهل الفتوة.
ولا عجب، فهم أبناء النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم، فإن كان الإنسان يتكون بين صفات وراثية، وبين مؤثرات بيئية، فأما صفاتهم الوراثية فمن رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم، ومن أم المؤمنين وسيدة نساء العالمين خديجة بنت خويلد، وأما المؤثرات البيئية فقد نشأوا وتربوا في بيت النبوة، أعينهم متعلقة بجدهم صلى اللَّه عليه وآله وسلم، يرون مكانه ويسمعون كلامه، ترعاهم بحنانها الزهراء البتول بضعة المصطفى الرسول، ويؤدبهم الإمام علي، أخو النبي، وابن عمه، ووارث علمه، بحر الفتوة وإمام الأئمة. فإذا نظرنا إلى هذه المعطيات فماذا ننتظر أن يكون النتاج؟ فلا عجب!! بل العجب كل العجب من أقوام لا تعرف من هم، ولا من أين جاءوا لا يتورعون أن يضعوا أبناء النبي في الميزان!!
سلام الله عليك يا إمام، يا من قال جدك في حقك "حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا[1]". هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسبًا وخُلقًا ووصفًا، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه محبة وصلة، فمن أحبهم وعرف حقهم كانوا له بابًا إلى رسول الله صلى اللَّه عليه وآله وسلم.
ولما كان ما كان من مقتل الإمام الحسين وآل بيته وأصحابه، حكى الشيخ نصر الله بن يحيى كما أورد الشيخ الشبلنجي في كتابه "نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار"، وقال عنه أنه من التقات الخيرين قال: "رأيت في المنام علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، فقلت يا أمير المؤمنين تقولون يوم فتح مكة من دخل دار أبى سفيان فهو أمن، ثم يتم على ولدك الحسين بكربلاء منهم ما يتم، فقال لي كرم الله وجهه: أتعرف أبيات ابن الصيفي التميمي في هذا المعنى؟ فقلت لا، فقال اذهب إليه واسمعها منه". فاستيقظت من نومي مفكرًا ثم إني ذهبت إلى دار ابن الصيفي وهو الحيص بيص الشاعر الملقب بـ "شهاب الدين"، فطرقت عليه الباب فخرج إلى فقصصت عليه الرؤيا فشهق وأجهش بالبكاء وحلف بالله إن ما سمعها من أحد وإن أكون نظمتها إلا في ليلتي هذه ثم أنشد لي:
"ملكنا فكان العفو منا سجية فلما مــلكتم سال بالدم أبــطح
وحللتم قتل الأسارى وطـالما غدونا على الأسرى فنعفو ونصفح
وحـسبكم هــذا التــفاوت بيننا وكــل إناء بمـــا فــيه ينضح"
فماذا ينضح إناء النبوة؟! إن إناء أهل البيت ليس فيه إلا ما حملوه من مواريث جدهم الأعظم صلى اللَّه عليه وآله وسلم.
سلام الله عليك يا إمام، يا من يذكرنا موقفنا عندك بجدك رسول الله، ونستنشق عندك في رحابك الطاهر نسمات الوصال بهذا الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم ولله در الشيخ صالح الجعفري إذ يقول:
"إذ اشتقنا إلى خير البرايا أتيناكم مشاة راكبينا
فشاهدنا لديكم كل خير وشاهدنا ألوفًا زائرينا
بإيمان وتوحيد وخير أتوكم سادتي متبركينا"
سبحان الذي مد في قلوب من شاء من عباده حبال المودة لآل بيت النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم على مر الزمان وفي كل مكان، والحمد لله الذي جعلنا من أهل مودتهم ونسأله بهذه المودة والمحبة أن يحشرنا يوم القيامة في زمرتهم.
[1] أخرجه الترمذي ورقمه (3775) وابن ماجه (144) وأحمد (17111).
شارك المحتوي