وبذلك سدد الله الخطى - الجزء الثاني



كنا قد أشرنا في المقال السابق إلى ضرورة إعادة صياغة النفس البشرية في سلوكها إلى الله، حيث أننا قد ابْتُـلِيـنَا في عصرنا الحالي بذلك التدين الظاهري، الذي اطمأنت إليه النفوس وارتضت بشكله الظاهري فقط في العبادة، والذي غالبًا لا يوافق ولا يواكب حقيقة المخبر وأمر الباطن. 

وذلك دون التنقيب عن حقيقة المعرفة بالله ومراقبته وخشيته التي تضفي على العبودية لذة المذاق وحلاوة الاتصال. والصحيح أن الباطن لا يجب أن يخالف الظاهر بل هو يؤيده ويحققه ويرسخ مقاصده ويحقق غاياته. إنها دعوة لكل مؤمن بل كل إنسان حي يرزق يرغب فيما عند الله تعالى من فضل ويسعى لمقام القرب والمحبوبية، أن يفتش في باطنه إن كان من أهل الله الذين رزقهم العبودية الحق، والذين وصفهم أنهم يمشون على الأرض هونًا، بما تحويه هذه الصفة من كل كمالات من تواضع وإنكسار وسعة وعفو.

هم أناس رحماء، لهم طاقة اكتسبتها أرواحهم من حسن الصلة بالله، فانعكست على أجسادهم في صورة رقة في الطبع، ودماثة في الخلق، ولين في الجانب. وسبق أن قسمنا هذا السلوك إلى أربع نقاط ذكرنا :-

أولًا: النية الخالصة في جعل الله هو الهدف الأسمى والمقصد الدائم.

ثانيًا: التوبة الدائمة يجددها العبد في كل حين يتخلى عن القبائح، ويتجمل بصفات الله العلية وها نحن بصدد تكملة النقطتين المتبقيتين.

ثالثًا: الشيخ المربي: 

إن قضية المعلم الهادي والدليل المرشد ضرورة لازمة طبعًا وشرعًا، ومن هنا أرسل الله الرسل، ولم يدع الناس لأفكارهم وحدها وإن سَمَت. فإن العقل مهما بلغ فهو محل للخطأ، ومن هنا وجد الإشراف والتوجيه البشري في كل شيء، وما لم يكن للمرء معلم في بقية الصناعات لما أصاب ولما أجاد وربما هلك. 

ولا تكون القدوة حسنة إلا إذا كان الله غايتها. لذلك كان اتخاذ الشيخ المربي واجبًا في طريق السير إلى الله. وبناءً على التجربة التي لا تعارض الكتاب والسنة، بل تنبع منهما بحيث يعين العبد على أمر دينه ويصحح مساره. وإن لم يكن للمريد شيخ في العلم والطريق، ضل وافترسه الشيطان. هو شيخ سبق أن عرف الطريق وخابره، ويعلم المُبهِرات التي حوله، وكيف يتجنبها السالك، ويعلم كيف يُعلم الأدب مع الله.

إنه شيخ سمت روحه إلى درجة الإحسان، وعرجت نفسه في معارج الكمال، وتهذبت أخلاقه، وتنامت قدراته الروحية والعقلية إلى درجة القرب والأنس والطمأنينة الكاملة. 

هو شيخ أصقل الله سبحانه وتعالى قلبه فانعكس عليه أحوال المريد ونقصه دون إساءة ظن بالمريد، لأنه يعلم أن المعايب قد استولت على جملة البشر إلا من عصمه الله. 

هو الشيخ العارف بالله العالم بكتابه والمقتدي بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، هو الصادق الذي لابد للسالك الحياة معه، والاسترشاد بمواعظه، والتأدب في مجلسه، وحسن الاستماع له، والعمل بالوصايا التي يأمر بها، وخاصة إن كانت متقيدة بالدليل الشرعي القاطع.

هو بمثابة الطبيب المعالج الذي يشخص الداء ويصف الدواء. فيربي المريد بناءً على معرفة تامة بأحواله، ويدله على الخير، ويكمل نقصانه، ويقوم انحرافه، ويجذبه إلى سلوك الطريق، بل يدفعه فيه دفعًا، فيختصر له طريق السلوك، ويعطيه خلاصة ما وصل إليه ويرتقي به. 

فيكون الارتباط الروحي بين الشيخ والمريد مُولد الطاقة التربوية، للعروج بالمريد السالك في مقامات وأحوال السلوك الروحي الرفيع. وعلى هذا فإن صحح السالك النية، وجدد التوبة، ورزق الصحبة، فعليه أن يداوم على طول المجاهدة وهي النقطة الرابعة والأخيرة.

رابعًا: المجاهدة المتوالية 

لا شك أن النفس الإنسانية قابلة لتغيير صفاتها الناقصة وتبديل عاداتها المذمومة. وإذا كان كثير من سباع الطيور والبهائم قد أمكن ترويضها وتبديل كثير من صفاتها، فالإنسان الذي كرمه الله تعالى بالعقل وخلقه في أحسن تقويم، من باب أولى تصعيد تلك النفس من سيئ إلى أحسن، وتسييرها على مراد الله تعالى وابتغاء مرضاته.

إذًا فالمجاهدة أصل من أصول السير في الطريق إلى الله، خاصة وأن الإنسان في معركة وجهاد ولا يعلم متى ولا أين ولا كيف تأتيه المنية. فيحتاج إلى مجاهدة متواصلة متمسكًا بالطاعات مهاجرًا للمعاصي، حاملًا نفسه على خلاف هواها المذموم، وإلزامها تطبيق شرع الله تعالى أمرًا ونهيًا. 

ثم الانتقال في المجاهدة إلى الصفات الباطنة، حيث أن للنفس أخلاقًا سيئة وتعلقات شهوانية، فينبغي أن تتبدل صفاته الناقصة كالكبر والغضب والرياء والبغي والحقد والحسد بصفات كاملة، كالتواضع والحلم والإخلاص وحسن الخلق لتصعد إلى صفات ممدوحة، ويتزكى بها القلب لتصبح نفسًا، لا تسر إلا بأنوار الطاعات والموافقات والاستئناس بالله تعالى، إن القلوب تحتاج إلى جلائها لترى الحق حقًا والباطل باطلًا، وسبيلها مجاهدة ومكابدة معاصي الجوارح والقلوب، التي تعيق آفاتها وخداعها وخرابها عن الترقي في مدارج الكمال.

إن منتهى آمال السالكين ترقية نفوسهم، فإن ظفروا وصلوا إلى مطلوبهم. والنفس تترقى بالمجاهدة والرياضة من كونها أمارة إلى كونها لوامة وملهمة وراضية ومرضية ومطمئنة. 

وخلاصة الأمر أن الحق واحد لا يتعدد، وإن تعددت السبل في إدراكه أو الوصول إليه، شأن الناظرين إلى الشمس والقمر في كافة أقطار الدنيا، يختلف موقع الطالب ويتعدد ولا يختلف المطلوب المحدد. فعند الانتقال من مكان لآخر قريبًا كان أو بعيدًا، يستطيع المرء أن يتخذ أي وسيلة نقل شاء، وكلها سبل توصل إلى الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد.

فطريق الله في الحقيقة واحد، فالله هو المطلوب، والله هو المقصود، ولكن يظل الإيمان بالغيب والاعتماد على الله أمر لابد منه في السلوك. فالسعي إلى معرفة الطريق ليس في حول الإنسان وقوته. وإنما هو أولًا وآخرًا بتوفيق الرحمن جل وعلا، فلنسعَ إذا.. ولنرتجِ.


شارك المحتوي