بداية السلوك: عن المحبة



تحدثنا في المقالة الماضية عن حقيقة التصوف، وأنه علم شريف في أصله يهدف إلى إصلاح القلوب وتزكية النفوس عملًا بقول الله تعالى : "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا". ومن أصول طريق التصوف: التحقق بمعنى المحبة  معرفة قيمة الحب في الإسلام. 

يقول الله سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ". فكان أول ما وصف الله به هؤلاء العباد هو المحبة. ويقول أيضًا "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ". 

فأصل الصلة بين العبد وربه هي علاقة المحبة، فهي ليست مبنية علي الخوف والترهيب كما يحاول البعض تصويرها لنا. لأن من يعبد عن خوف فهو يعبد عبادة ناقصة والدليل على هذا هو أن نسأل أنفسنا، لو لم يخلق الله النار والعقاب، هل كان سيكون أهلًا للعبودية أم لا؟ بالطبع سيكون أهلًا للعبودية.


 فعبودية الخواص تأتي من معرفة هذا الإله معرفة حقيقية ومحبته محبة خالصة تملك عليهم زمام أمورهم بحيث لا يروا لأنفسهم سبيل إلا عبادة هذا الإله الجميل الجليل. فعبوديتهم ليست خوفًا من العقاب أو طلبًا للثواب، إنما هي عبودية خالصة لوجه الرحيم التواب. ومن هنا يتحقق قول الله سبحانه وتعالى: "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا". 

فإن الله يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أفضل الخلق أجمعين وأحب المخلوقات إليه تعالى أن يصبر نفسه مع مجموعة من البشر.

 فما هذا الشرف العظيم والقيمة العالية لهؤلاء العباد عند الله حتى يأمر نبيه بذاك ؟! ومن الآية نرى أن كل ما يريدونه هو وجه الله تعالى. 


وفي ذلك قالت السيدة رابعة العدوية:


"كلهم يعبدون من خوف نار ***  ويرون النجاة حظًا جزيلا"

أن يسكنوا الجنان فيحظوا ** *  بقصورٍ ويشربوا سلسبيلا

ليس لي في النار والجنان رأي *** أنا لا أبغى بحبي بديلا"


فإن المحبة الصادقة هي سبيل الإخلاص لله تعالى وكيف لا؟ وإن كنا نحن بني البشر عندما نحب أحدًا محبة خالصة قد نفعل عجب العجب طالبين رضاه، ولله المثل الأعلى، فما بالكم بمحبة الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم؟

ولا تقتصر المحبة هنا، فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر على لسان الصادق الصدوق صلى الله عليه وآله وسلم على أهمية المحبة وكونها من أصول الدين في أكثر من موقع. 

فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". فعلق تمام الإيمان بالفناء في محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وأهلينا ومالنا. وهذا دليل علي أن المحبة ليست من الفروع أو النفل، لكنها شرط من شروط الإيمان وفرض من فروض الدين. 

ومن رحمة الله تعالى أن يجعل المحبة وحدها شافعة لصاحبها، فإن أحد الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"يا رسول الله متى الساعة؟ قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "وماذا أعددت لها، فقال: لم أعد لها كثير صلاة  صيام غير أنني أحب الله ورسوله. 

فقال له النبي: "المرء مع من أحب"

صلوا على من به رُحمت العالمين، يُرحم المرء ويكون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة بموجب محبته لله ورسوله.

 وفي موضع أخر جاء الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بصحابي شرب الخمر أكثر من مرة ليقام عليه الحد، فسبه أحد الصحابة فقال له النبي: "لا تسبه، فوالله ما عرفناه إلا يحب الله ورسوله".

 يشفع النبي في شارب الخمر بحبه لله ورسوله، فلم يقل النبي دعوه إنه يقيم الليل أو دعوه إنه يصوم النهار، بل قال دعوه إنه يحب الله ورسوله. وليس القصد من هذا القول هو التقليل من هذه الأعمال فقدرها معلوم ومرفوع من قبل رب العالمين، ولكن المقصود هو إظهار شرف محبة الله ورسوله وأنها تشفع لصاحبها ولو مليء بالعيوب.


والحقيقة أن الكلام في المحبة يطول ولا ينتهي، ولسنا أهلًا للخوض فيه ولكن ننقل لكم بعض ما سمعناه من شيخنا سيدي محمد أكرم عقيل مظهر. فندعو الله سبحانه وتعالى أن يُحققنا بمحبته ومحبة النبي وآل بيته الأطهار والصحابة الأبرار والصالحين من أمته.


شارك المحتوي