بداية السلوك: عن الأدب



إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لمعرفته ومحبته، وجعل من خلق الدنيا والآخرة ميدان للمعاملة معه فقال:"تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ". فكان الغرض من خلق الدنيا والآخرة هو إيجاد ميدان للمعاملة بين الخلق وبين الله يظهر فيها حقيقة العلاقة بين العبد وربه. 

إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل سبيل الوصول إليه بالعبادات المؤقتة فقط من صلاة وصيام وحج وما إلى ذلك، ولكنه جعل كل ما نفعل في هذه الدنيا سبيل للوصول إليه. ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى:" قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". فلم يقل صلاتي ونسكي لله وحياتي لنفسي، بل جعل كله لله تعالى. وهذا مفهوم مهم جدًا لمن أراد معرفة الحق، لأن الطريق للعبودية ليس مقطوعًا عن الواقع والحياة التي نعيشها بل متصل به اتصال كامل.

المقصود من هذا أن نرى أن كل المعاملات الدنيوية سواء كانت مع إنسان أو حيوان أو حتى جماد على أنها ميدان للمعاملة مع الله، فلنلزم فيها الأدب الواجب لله. لأننا لو علمنا أن كل تعاملنا مع الخلق هو باب لمرضاة الله، ستتغير طريقة رؤيتنا للخلق. يقول الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:" عبدي مرضت فلم تعدني قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟". فأنزل الله سبحانه وتعالى هذا المريض منزلة نفسه.  وفي هذا سر عظيم وخطر جسيم لمن لا ينتبه، وهذا السر هو روح الدين وقوامه  وهو الأدب.

الأدب هو سر الدخول على الله، فلا دخول عليه بدون أدب. أما نرى إذا كان واحدًا من العوام مدعو عند الملك، فيأخذ وقتًا طويلًا حتى يتعلم آداب التعامل في حضرة الملك وبلاطه؟ ولله المثل الأعلى، فما بالكم بمن أراد أن يدخل على حضرة الجبار المتكبر؟ كان أحرى له أن يمضي عمره في تعلم أدب المعاملة مع الله. يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ". الله سبحانه وتعالى يجعل عاقبة سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إحباط عمل صاحبه. يمضي الواحد منا عمره في عبادة وكد، ثم يحبط عمله كله بسبب سوء الأدب. ولم يكن الله ليفعل ذلك إلا ليعلمنا أهمية الأدب، وأنه لا دخول على الله بدونه. عرف العلماء هذا فقالوا: "كل علم لا يورث صاحبه أدب فلا خير فيه". وقال أهل الطريق: التصوف خُلق، فمن زاد عليك في الخُلق، فقد زاد عليك في التصوف".


فإن مما نراه اليوم من صور التدين الزائف أن نرى أشخاص قائمين صائمين لله تعالى، لا يكدوا ولا يتعبوا في العبادات، ولكنهم يعاملون الله في المساجد فقط. وينسون أن الخلق كلهم هم خلق الله وعياله، وينسون أن الله ملك ونحن عباده، والملك يحب العبد الذي يحفظ له الأدب مع عباده. فالعبد الصالح يلزم الأدب مع خلق الله، لأنه يفهم سر نسبتهم إلى الله. ويعرف أن حفظ  الأدب مع الخلق إنما هو حفظ للأدب مع الخالق.


عرف الصالحون هذا ووقروه وظهر في معاملاتهم مع الخلق. الإمام الرفاعي رحمه الله كان يأخذ الكلاب المرضى والجذام الذين يشمئز منهم الناس إلى خارج المدينة، وينظفهم ويغسلهم ويطعمهم حتى يبرئوا برحمة الله. ولما سُئل عن اعتنائه بالكلب المريض:"أتعتني بهذا الكلب هذا الإعتناء كله؟ قال: نعم، خفت أن يؤاخذني الله يوم القيامة، ويقول: أما عندك رحمة لهذا الكلب؟! أما تخشى أن ابتليك بما ابتليت به هذا الكلب؟". 

فانظروا إلى لطائف معاملة أهل الله لخلق الله، يلتزمون الأدب مع كل شيء تعظيمًا لخالق كل شيء. ورثوا رحمة جدهم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "العلماء ورثة الأنبياء".  وما ورثوه إنما هو رشحات من رحمة النبي صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، الذي عمت رحمته كل خلق الله، فبكى على فراقه جزع النخلة، وسبح في يديه الحجر، وشكى إليه البعير. كان أحرى بنا أن نقتدي بحضرة النبي في هذه الأخلاق والمعاملات، وأن نعرف أنه ما بعث إلا ليُرحم به العالمين. فمن أراد أن يتبع سنته فليكون من الراحمين، ليكون بإذن الله من المرحومين فإن من لا يرحم لا يرحم.


ندعو الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حسن الأدب ظاهرًا وباطنًا، وأن يحفظ أعمالنا وقلوبنا عن سوء الأدب والغفلة. وأن يرزقنا الفهم الصحيح لدينه ويبلغنا بمراده منا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.


شارك المحتوي