مقال بتاريخ مارس 2014
كنت في لقاء مع بعض الأحباب أمس وتكلمنا حول التصوف، وأحد الأحباب كان يسأل عن علاقة الشيخ والمريد يقصد ما سر هذه العلاقة؟ ولما هذا التعلق الشديد بالشيخ المربي؟ وكيف للشيخ أن ينقل حقائق في قلبه لقلب المريد دون كلام وخطاب؟ فأجبته بأن هذه العلاقة لا يمكن أن توصف بالكلمات ولا يُدرك حقيقتها إلا من ذاقها ومر بها. ولكني أردت أن أعبر عن بعض معاني هذه الصحبة وما يحدث فيها استنادًا على تجربتي المتواضعة مع سيدي وأستاذي وسندي ومولاي محمد أكرم عقيل مظهر رحمه الله وقدس سره ولا قطع الله عنا بركاته و نوره وعلمه وأمداده.
الشيخ المربي هو الأب الروحي الحقيقي للمريد، فهو إن صحت علاقتك به أصبح غذائك الروحي الذي تستمد منه أحوالك الباطنية بأسرها. وهو يعطيك على قدر تعلق قلبك به، وعلى قدر استعدادك للتلقي، وما ينقله إلى قلبك هو أحوال وتجليات وفهوم لم تكن فيه من قبل. وليس التلقي من الشيخ تلقيًا باطنيا فقط، ولكنه تلقي ظاهري أيضًا، فبوجودك في صحبته ترى وتتعلم من مجرد النظر إليه في أحواله الدنيوية الطبيعية من أكل وشرب ومجالسة ومعاملة مع الخلق في بيع وشراء وهكذا.
ولكن هذا التلقي يحتاج من المريد إلى التركيز الدائم مع الشيخ، وتخلية العقل والقلب من كل ما يطرأ عليه من الخواطر والفناء بكليته في ملاحظة مرشده، لأن إشارة المشايخ لطيفة صغيرة المبنى عظيمة المعنى، إن لم تنظر لها بعين الاعتقاد والاتباع فاتتك أسرار الأسرار وأنت لا تدري. والصالحون يغارون على ما آتاهم الله من العلم أن ينثروه على القاصي والداني، فيتطلب هذا من المريد دوام الملاحظة والحضور في صحبة الشيخ، حتى لا يفوته إشارة قد تكون سببًا في الفتح والفهم.
وكون الشيخ هو الأب الروحي للمريد يتضمن أيضًا تغذية المريد بما يحتاج إليه من العطف والمحبة والحنان الذي يفتقدهم الكثير من الناس خاصة في زماننا لكثرة القسوة من التعلق بالمادة. وهذه التغذية غاية في الأهمية لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف للمريد أن يحب الخلق ويتعامل معهم بالرحمة والشفقة واللطف والرأفة، إن لم يتعامل في حياته بهذه الطريقة. وفي هذه التغذية يحرص الشيخ على ضبط ميزان حساس، بين تغذية المريد بالمحبة واللطف والرأفة، وبين إرشاد المريد بصرف همته لله تعالى، والتأكيد على أن وجود الشيخ هو سبب وسلم للترقي في معرفة الله، حتى لا يصير المريد متعلقًا بهذه المعاملة الخاصة طالبًا لها، فينسى لما صحب الشيخ في الأساس. وهذا الضبط من أدق الأمور وأصعبها، حتى أن الشيخ رحمه الله كان إذا رأى في عين أحد الأحباب هذا التعلق المرتبط بالمعاملة الخاصة، منعها عن المريد بعض الوقت ونبه عليها الجمع كله، خشية أن يكون فتنة للمريدين.
ولا يتوقف فضل الشيخ على المريد في أمور التلقي الأخروي الظاهري والباطني فقط، بل إن الشيخ إذا تحققت له من المريد صدق البنوة، صار له مرشدًا ناصحًا في أمور الدين والدنيا، متقدمًا حاملًا عنه هم الإثنين كما يحمي الأسد أشباله في العرين. فكان الشيخ رحمه الله وقدس سره لا يكل ولا يمل إن كلمته في أموري الدنيوية والشخصية، ولما اعتذرت له مرة عن إدخالي إياه في كل هذه الأمور قال لي "أسكت! أنا ليا دعوة بكل حاجة تخصك!".
والحق وما شهدناه أن صحبة الولي الصالح هي أغلى بضاعة في الزمان، وعندما فكرت في نعم الله على الفقير وجدت هذه أعظم نعمة مَن الله علي بها بعد قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهذا لأن بهذه الصحبة يورثك الله التوفيق والتيسير في أمور الدنيا والدين، وأذكر أني قلت للشيخ مرة أني منذ دخلت في هذه الصحبة أجد من الله التوفيق في كل أموري ببركتها فقال لي"ولسه هتشوف". وصدق الشيخ فكل يوم يمر على الفقير يجد من توفيق الله سبحانه وتعالى له ولطفه به ما يعجز عن فهمه عقل وعن شكره قلب، وأشهد أن هذا ببركة صحبة الولي الصالح سيدي محمد أكرم وببركة محبة الأولياء والصالحين.
وما ذكرته هنا هو قطرة في بحر الانتفاع الذي يحدث من صحبة أهل الله ورجاله، وما ذكرته هنا هو مما مر به الفقير من صحبته لسيدي ومولاي العارف بالله محمد أكرم عقيل مظهر تجربة ومعاينة، وليس نقل أو استدلال. فمن يجد فيما ذكرت ما يحرك قلبه تجاه الصالحين، فليسرع بالدخول في صحبتهم فإنهم القوم لا يشقى جليسهم، ومن لم يقنع بما ذكرت فلا يحاول دحضه بالكلام العقلي، لأن التجربة والمعاينة يقين وما دونها شك، واليقين لا يزول بالشك.
شارك المحتوي