المقال بتاريخ يونيو 2012
إن مسألة الإيمان بالرسالة التي اختص الله بعض خلقه من الأنبياء والمرسلين ليبلغوا بها البعض الأخر هو جوهر خلق الخلق أجمعين. فيقول الله تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، أي ليعرفون، كما فسرها سيدنا عبد الله بن عباس. وإن أي عاقل من بني البشر متأمل في خلق الله تعالى، يجب أن يسأل نفسه هذه الأسئلة الفطرية: كيف أتيت إلى هنا؟ وماذا أفعل هنا؟ وإلى أين أنا ذاهب؟ وهذه الدراية البدائية بهذه التساؤلات هي بداية رحلة الإنسانية في أكتشاف الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فلم يحملوها وحملها الإنسان "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَة عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا". فإن سر هذه الأمانة هو التكليف، وهو ما اخُتص الله به الإنسان عن سائر مخلوقاته، حيث أعطى الله الإنسان الأدوات الحسية والروحية التي تمكنه من حمل هذه الأمانة ثم عرضها عليه "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا".
فلما كان اختيار الله القديم أن يختار من خلقه من يكلفه بحمل الأمانة، اقتضت الحكمة أن تكون هناك رسالة منه إلى ذلك المكلف، تعرفه بالتكليف وتجاوبه عن تلك الأسئلة الفطرية (كيف أتيت هنا؟ ماذا أفعل هنا؟ إلى أين أنا ذاهب؟). ولما اقتضت الحكمة وجود هذه الرسالة كان يجب أن يكون هنا حامل لها، وبه فقط يكتمل التدبير الإلهي في إظهار الحُجة على خلقه، فالراسل موجود وهو الله، والمرسل إليه موجود هو بني آدم، والرسالة موجودة وهي القرآن (كلام الله القديم)، والباقي هو الرسول أي ناقل الرسالة من الراسل إلى المرسل إليه. فبوجوده تكتمل حلقة معرفة المخلوق بالخالق وبه يعرف المخلوق ما خلق له.
ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الوسيلة العظمى والسبب الأوحد في معرفتنا بالله، اصطفاه الله في سابق علمه ليكون هو الحامل لهذه الرسالة التي سبق وتعين أنه فقط بوجوده تكتمل منظومة التكليف. ومعرفة هذا هو باب النجاة لكل بني آدم ولهذا يقول الله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، فإن الله قد يبعث رحمته بسبب أو بغير سبب، ولكنه اختار أن يجعل عبده ورسوله وحبيبه وصفيه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب في وصول هذه الرحمة والهداية للمخلوقين.
والغرض من هذا الكلام هو إظهار أهمية النبي في حياتنا. لأن المؤمن الحقيقي يعلم أن المرسل له من قبل الحق، هو الحامل الحقيقي لكل ما يريد الله منه، وهو مفتاح الوصول إلى الله. فكل خير في الدنيا أو الآخرة يريده الله لنا في هذه الرسالة، وحامل هذه الرسالة هو الرسول. فلهذا يجب أن نضع دائمًا وأبدًا حضرة النبي نصب أعيننا ونقتدي به في كل أفعالنا وأقوالنا وأحوالنا وتعاملنا. ونعلم أن الخير كله فيما جاءنا به، والشر كله فيما نهانا عنه.
ويجب أن نعلم أن اتباع النبي هو إتباعًا إنسانيًا كاملًا، ظاهرًا وباطنًا. فلا يكفي أن نتبعه ظاهرًا في أفعاله وكلامه ولا نقتدي بأخلاقه وأحواله، ودلائل الإيمان الحقيقي تظهر عندما تقارن ما تحب وتكره بما كان يحبه النبي ويكرهه. فإن صار هواك تبعًا لهواه فأنت من المؤمنين لأنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به".
والحاصل هو أن نجعل نبينا حاضر في أذهاننا وقلوبنا على الدوام، وأن لا نزيغ عن أخلاقه وأوامره ونهيه لنا مهما تغيرت الأحوال لأن باتباعه يصح لنا حمل الأمانة التي كلفنا الله إياها وندخل في دائرة المحبوبية "قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ"، وإذا دخلنا في دائرة المحبوبية كان لنا ميراثًا روحيًا من نور مشكاة النبوة. وهنالك فقط نصبح ممن قال الله فيهم:"أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ".
فنسأل الله أن يمن علينا باتباع خير الأنام اتباعًا ظاهرًا وباطنًا يعلق قلوبنا بقلبه وأوصافنا بأوصافه حتى يصير أحب إلينا من أنفسنا وأهله أحب إلينا من أهلنا إنه علي كل شيء قدير.
شارك المحتوي