المقال بتاريخ يوليو 2012
من منة الله على خلقه أنه جعل لنفسه أيامًا ومواسم، يجود فيها علي عباده بالرحمة والقبول. في هذه الأيام تتنزل نفحات الرحمة ويتجلى الله بأسماء الجمال فتفتح أبواب الدخول على الله فيقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"إن لربكم في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها"، ويقول الله تعالى في كتابه:"وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ". ومن أهم هذه المواسم هو شهر رمضان المعظم، الذي اختصه الله بعباده قال عنها أنها لنفسه، وهو يجزي بها فيقول في الحديث القدسي:"كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فهو لي وأنا أجزي به". وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الله أن يبلغه شهر رمضان لما علم من عظيم الرحمة والكرم التي يتجلى الله بها في هذا الشهر. والحاصل أن الفقير من الخلق إذا ورد عليه موسم الكرم من الأغنياء تأهب واستعد لتلقي العطاء كما نرى في الأعياد والمناسبات. وكلنا مع الله فقراء، فإذا جاء موسم العطاء الرباني وجب علينا أن نكون من الحريصين ألا يمر الموسم بدون أن نأخذ منه نصيبًا.
ومن أهم ما يطلب من الله في هذه المواسم اليقظة. واليقظة هي أول منازل السائرين إلى الله وهي بداية الطريق المستقيم. اليقظة باعث يرد على القلب إما بخوف مزعج أو شوق مقلق يهتف إليك في قلبك:"ما لهذا خلقت يا عبد الله". ما خلقت للسعي وراء الدنيا والغرق في شهواتها والاستكثار منها. وما خلقت "لتستمتع" بالدنيا فإنها لا تسوى عند الله جناح بعوضة. ولكنك خلقت لما هو أسمى من ذلك بكثير، خلقت لأن رب العباد يُريدك أن تعرفه وتحبه. تأمل هذا الكلام لحظة وتفكر فيه، الله الخالق الجبار رب السماوات والأرض، خلقك أنت لأنه يريدك أنت أن تعرفه وتعبده. فما خلقك هباءً أو زيادة أو إسرافًا، لكنه خلقك أنت ذاتك لأنه يريد أن يُعرفك عليه. ما هذا الشرف العظيم؟! وما هذا الرب الكريم؟ وما هذه المهمة العظيمة التي خلقت من أجلها ؟
والحقيقة أن لقائك مع الله سيحدث يقينًا حتى لو تصورت غير ذلك أو غفلت عن هذه الحقيقة، "يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ". فعلى أي حال تريد أن تقابله ؟ هناك من سيقابله على حال الغفلة ولا تتحصل له اليقظة إلا في ذلك الموقف العظيم "وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" أعاذنا الله وإياكم. وهناك من يقابله علي حال الشوق والحضور "فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ"، جعلنا الله وإياكم منهم.
فأهل الشوق إلى الله كوى الحب أجسادهم، فأفناهم عن الدنيا والآخرة بنعيمهما، وأفردوا همتهم كلها لله، جنتهم رؤياه ونارهم البعد عنه. ولا نتخيل للحظة أن هذه مقامات مستحيلة أو أننا لا يمكن أن نكون منهم، فعطاء الله لا ينفذ وهو الكريم. والصلح مع الله يحدث في لحظة، ينظر الله إلى قلبك لحظة فيرى ما يسره، فيتوب عليك فتتوب إلى الأبد وتُكتب من السعداء، وما ذلك على الله بعزيز، وسير الصالحين مليئة بمن كانوا على غير ما يرضي الله فحصل معهم الصلح مع الله في لحظة، وصاروا من كبار الأولياء الذين انتشرت سيرهم في الآفاق. والله تعالى يقول: "قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ". وهو الذي بدأ كتابه ببسم الله الرحمن الرحيم، وهو الذي أرسل رسوله رحمة للعالمين. فباب الله دائمًا مفتوح للتائبين وعفو الله قريب من الأوابين. وإذا تقربت إلى الله شبرًا تقرب هو إليك ذراعًا، وإذا تقربت إليه ذراعًا تقرب إليك باعًا وإذا أتيته مشيًا أتاك هرولة. فهو يريدك إليه ويريد أن يرحمك ويفرح بك إذا عدت إليه بل ويعينك على ذلك.
وفي هذا الشهر يزداد هذا العطاء ففيه الرحمة والمغفرة والعتق من النار. ومن منة الله على المسلمين أن كل من قال لا إله إلا الله يتغير حاله في رمضان وكل على قدره. ففي رمضان تتجدد طاقة الخير والطاعة فينا ويزداد فيها قربنا إلى الله وشوقنا إليه. فما أغلاها من فرصة لنكتب في هذا الشهر من السعداء، ويحصل فيه لحظة صلحنا مع الله، فيتبدل حالنا ونكون من المقبولين.
فلنسأل الله في هذا الشهر العظيم أن يمن علينا بنظرة رضا نكتب بها من المقبولين السعداء ويحقق رجانا فيه بأن يرحمنا يوم الموقف العظيم ويقدر لنا أن نشرب من حوض النبي الكريم وأن يرزقنا حضورًا بلا غفلة، ومحبة بلا حجاب، ونفس بلا شهوة، وإخلاص بلا طلب، وعمل بلا رياء إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على البشير النذير السراج المنير سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شارك المحتوي