المادية والتأسلم: وجهان لعملة واحدة



المقال بتاريخ أكتوبر 2012


في ظل الحراك الديني الذي يحدث في البلاد وظهور بعض الفرق التي تعمل في العمل السياسي والاجتماعي تحت شارة الدين، ويصدر منها أفعال لا تمثل أخلاق أو معتقدات ولا مبادئ الإسلام، أردت أن أعلق مختصرًا على رأيي المتواضع في سبب ظهور هذه الفرق. 

لما خلق الله الإنسان جعله من شطرين، شطر طيني دنيوي مرتبط بالحس والشهوات البشرية، وشطر نوراني روحاني مرتبط بالمعنى والروح. ونحن في زمان طغت فيه البشرية الطينية علي الروحانية في كل شيء، فصارت المادية والحس هي ما ينتهي إليه إدراكنا، وهذا هو مربط الفرس.

فإن الله يقول في مستهل كتابه:"الم ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ". فيقول الله تعالى أن الهدى الذي جعله في كتبه إنما هو للمتقين، وأول صفات المتقين هو الإيمان بالغيب. فإذا غاب الإيمان بالغيب غابت التقوى، وهذه هي المعضلة التي تعيشها أمة الإسلام حاليًا. فعندما طغت البشرية الحسية على الروحانية الغيبية صار الدين نفسه يفهم بعقلية مادية.


الإنسان بطبيعته يطمع في الأشياء التي يراها ذات قيمة، ولهذا خلق الله الجنة، ليطمع فيها أولوا الألباب فيطلبوها، ثم يسلكوا طريقًا يقربهم إليها. وهذا الطريق الذي تسلكه لبلوغها غالبًا ما يتضمن التضحية ببعض ما تريده في الدنيا، فإن كان إيمانك بالغيب صحيحًا صدقت الطلب وفعلت ما أمرك الله لتكون من الناجين في اليوم العظيم. أما إن كان إيمانك بالغيب معيوبًا تشككت فيما هنالك فطمعت فيما هنا لأنك تخاف ألا يكون هناك شيء هناك. 

ولهذا نرى من يتلبسون بالدين في هذا الزمان هم أكثر الناس سعيًا وراء طلب الدنيا وشهواتها من سلطة وجاه ومال، لأنه لما طغت المادية الحسية على قلوبهم أعمتهم فحجبوا بالمحسوس، فلم يعتقدوا أن هناك عالم أخر بعد هذه الدنيا الفانية. ولهذا دليل أخر كلنا نراه وهي ظاهرة "عد الحسنات"، افعل كذا وتأخذ "4860000" حسنة، على من نعد ونحسب ونكتب؟ ولماذا صور إلينا أننا سنذهب إلى الله بكشف حساب فنطلب منه العوض على ما فعلنا؟ هذه نظرة قاصرة مادية تصور تعاملنا مع الله على أنها معاملة ندية. والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وآله سلم علمنا أنه لا يدخل أحدنا الجنة بعمله ولكننا ندخلها برحمة من الله وفضل إن شاء الله.


فهذا الطغيان المادي هو سبب هذا الفهم العجيب للدين، وليس العكس لأن كل منا يفهم فقط ما يريد أن يفهم، فإن كانت قد نزعت من قلبي مفاهيم الرحمة والمحبة وحسن الخلق لأنهم أمور معنوية، وتبدلت بتكاثر الأموال وطلب الدنيا، فسأفهم من الدين ما يحثني على فعل ذلك. فبدلًا من أن تكون زيارتي لأحد إخواني محبة في الله تكون زيادة في كشف حسابي.


مشكلتنا في هذا الزمان هي مشكلة إيمانية قبل أن تكون مشكلة اختلافات فقهية أو في مسألة تطبيق الشريعة أو كل ما يثار. من لم يؤمن بالغيب محصور في عالم الحس لا يعلم غيره. ومشكلة هذا أنه يحاول فهم الدين بنظرة مبنية على المادية في حال أن الدين بُعث أصلًا لمن يؤمن بالغيب. فأنا لا استعجب مما يفعله هؤلاء لأني لا أرى إلا أشخاص لا إيمان لهم، ولا أقصد بهذا الإساءة ولكن بالمعنى الذي ذكرته مقدمًا. فمن لم يكن يؤمن حقيقة بوجود حياة بعد الموت فكيف نطلب منه أن يتخلى عن شهواته الدنيوية في طلب هذه الحياة؟


قد يقول البعض أن هؤلاء يتكلمون دائمًا بلسان القرآن والحديث ويثبتون لأنفسهم التقوى، وطلب رضا الله سبحانه وتعالى فكيف يكونوا معدومي الإيمان؟ والرد يكمن في مراقبة الأفعال والأحوال ليس في الكلام لأن الكلام سهل ولكن الأفعال تنبع فقط بناء على ما يعتقده الإنسان في باطنه. فإن ما استودعه الله في السرائر أظهره في شهادة الظواهر كما قال سيدي أحمد بن عطاء الله السكندري.


ومن هنا نصل إلى أهم سؤال في هذا الموضوع، هل هناك بديل؟ وما هو هذا البديل ؟ نعم هناك بديل قطعًا لأن الله سبحانه وتعالى بعث هذا الدين الكامل للخلق كافة ووعد بحفظه، فمن أراد الحق وطلبه بصدق، فليتيقن أن الله سبحانه وتعالى سيأخذ بيده إليه. وهذا البديل يبدأ بعقيدة ثابتة في وجود الله سبحانه وتعالى واطلاعه على أفعالنا وأقوالنا وأعمالنا، فهذه بداية الإيمان بالغيب وباب التقوى، فإن لم أوقن بقلبي أن الله يراني، فلم سأطيعه في السر والعلن؟ قد أطيعه في العلن رياءً لخلقه حتى يحسنوا الظن بي، ولكن طاعته في السر ليست إلا للمتقين جعلنا الله وإياكم منهم وصلى الله عليه سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.


شارك المحتوي