صناعة الإحياء



المقال بتاريخ ديسمبر 2012


الظلمة غياب النور والجهل غياب العلم. والنور دليل العلم والعلم ثمرة النور. ومن ليس له  نور، فهو من الأموات وإن كان حيا يتكلم وتسمعه، فهذه حياة البدن أما حياة القلب فهي في قول الله تعالى:"أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ". ففي زماننا هذا كثر الأموات وقل الأحياء، وموت القلوب أسوأ بكثير من موت الأبدان فكم من حي تحت القبور، وكم من ميت يمشي بيننا. والمتأمل في زماننا هذا يجد أننا نحتاج لصناعة جديدة وعلم جديد، نحتاج لعلم إحياء الموتى.


لما توفي الشيخ عماد عفت العام الماضي رأيت في منامي ليلة جنازته أن العلم عشرة كتب، منهم كتاب فقد مع موت الشيخ، وهو كتاب علم إحياء الموتى. فعلمت أن ما نحتاجه في هذا الزمان هم رجال على هذه الشاكلة، فرسان بالنهار رهبان بالليل، يقضون حوائج الخلق بالنهار ويخلون بمحبة الخالق في الليل. لما ولي سيدنا عمر الخلافة، وصار أميرًا للمؤمنين كان نادرًا ما ينام، فلما سألوه عن ذلك قال: "لو نمت بالليل ضيعت نفسي ولو نمت بالنهار ضيعت رعيتي". هذا الحال من المعرفة بالتكليف وكمال حمل الأمانة التي كلفه الله بها هو ما تحتاجه الأمة. هؤلاء الرجال هم من أحيوا قلوب الشرق والغرب بهمهم في القرب لله رب العالمين، لأنهم فهموا أن مدار تكليف الحق لهم هو كله مسؤوليتهم سواء كانوا مما يحبون أو يكرهون.


ولكن هذه الهمم لم تأتي من فراغ ولكنها أتت من نار تحترق في قلوبهم، نار المحبة والشوق لله ولرسوله. هؤلاء الرجال لم يعملوا لأجل مناصب ولا من أجل رفعة بين الناس ولكنهم عملوا من أجل شيء واحد، عملوا من أجل الحب. 

رجال أفنوا أعمارهم ليلحقوا برسول الله بعد أن فارقهم في الدنيا. فلما جاء الوقت لهم باحوا بما عاشوا له، لما ضرب الملعون عبد الرحمن بن ملجم الإمام علي رأسه قال: "فزت ورب الكعبة"، ولما كانت الليلة التي سيقتل فيها سيدنا عثمان رأى رسول الله في منامه يقول له:"يا عثمان أفطر معنا الليلة". ويكون سيدنا الحسين مع أهله في كربلاء فيقول لهم:" يا أولادي إن الله قد أذن في قتلنا الليلة". فيسأله ابنه الإمام علي زين العابدين:"يا أبي ألسنا على حق؟"، فيرد عليه:"نعم يا ولدي والله إننا لعلى حق" فيرد عليه الإمام:"إذا فلا نبالي". لا نبالي بما يقولون ولا نبالي بما يعملون ولا نبالي إن يظهروا علينا أو أن يقتلونا إن كنا علي حق. 

أهل المحبة ماتت في قلوبهم الدنيا، فلا يبالون بها ولا تدخل في حسابتهم، مثلها عندهم كمثلها عند الله، جناح بعوضة. يرون الزاهد فيها أعمى لأنه وجد ما يزهد فيه.


فصناعة الإحياء لا تكون إلا بالأحياء، ولكن أين هم؟ وكيف الوصول إليهم؟ وكيف نكون منهم؟ الحياة في المحبة، محبة تمسك عليك زمام نفسك حتى تكون كالميت في يد المحبوب يصرفك كما يشاء بلا هوى أو نفس لك. والمحبوب لما كلفك وظفك بثلاث مهمات أساسية:

عبادة الله

عمارة الأرض

تزكية النفس

فكل واحدة من هذه الوظائف بها تودد للمحبوب وقرب منه ولا تكفي واحدة عن أخرى. فمن انشغل بواحدة وترك الإثنين الأخرين فقد قصر في محبته للمحبوب ولم تتم له الحياة. وأما من قام بهن على وصف ما أراد منه المحبوب فقد فاز بالمحبة، وصار له شأن في دولة الأحياء يُحيى الله به قلوب من شاء من عباده فيكون إمامًا يُقتدى به. وما أحوجنا في زماننا لرجال على هذه الشاكلة، رجال تربوا في مدرسة الحب وتخرجوا منها أئمة يهدون بأمر الله لما صبروا.

"كانت لقلبي أهواء مفرقة *** فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي

وصار يحسدني من كنت أحسده *** وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي

تركت للناس دينهم ودنياهم *** شغلًا بذكرك يا ديني ودنيائي"

سيدي عمر بن الفارض


شارك المحتوي