المقال بتاريخ نوفمبر 2016
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت قد توقفت عن كتابة المقالات الطويلة من فترة، وكأن الإذن بها قد تعطل، لأسباب الله أعلم بها. ثم تحركت في الداعية للعودة للكتابة مرة أخرى، ووجدت هذا الباعث يقوى ويدعو لنشر دعوة للتأمل، والوقوف مع النفس، والنظر بعين الناقد المستبصر، المدرك لما يحدث حوله، وإن لم يجد حلول ملائمة لواقعه المرير. وهذا ما أريد الكلام عنه في هذه المقالة: دعوة لتأمل واقع الأمة، ونقد الذات، عملًا بقول الحق "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ".
أخبرنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأطوار مختلفة تمر بها الأمة، ووصف لنا هذه الأطوار ومعطياتها، ليفتح لنا باب الفهم عن الله فيها، ويتسنى لنا العمل على حفظ ديننا ودنيانا، كما يريد الله سبحانه وتعالى منا. ومن هذه الأطوار ما سماه صلى الله عليه وآله وسلم بمرحلة غثاء السيل، وهي مرحلة يكثر فيها أهل الإسلام، ولكن لا تزيدهم هذه الكثرة إلا ضعفًا وهوانًا، وتتكالب عليهم الأمم شرقًا وغربًا في وسط هذه الغفلة الشبيهة بالسبات، والتي سماها المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالوهن، ووصفها بأنها حب الدنيا وكراهية الموت. ومن هذا النص الشريف، الواصف لواقع الأمة المرير، والتحول العالمي الذي يصيب الإسلام والمسلمين، نقف لنتأمل ارتباط النص بالواقع، وأسباب الإصابة بالوهن.
يحدد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم سبب الوهن في الأمة في مرحلة الغثائية بحب الدنيا وكراهية الموت، وحب الدنيا وكراهية الموت من علامات ضعف الإيمان، إذا أن رأس الإيمان هو الزهد في الدنيا وطلب الآخرة، إذن فمشكلتنا بالأصل مشكلة إيمانية، متعلقة باتصالنا وتمسكنا بالأصول التي تربطنا بالله ورسوله، والتي منها تظهر قدرتنا على تباع أمر الله، وترك نهيه، وبها تظهر عزتنا في مواجهة غيرنا بسبب زهدنا في الدنيا وما فيها من حطام فاني.
المتأمل يجد أن المسلم قد تفرغ تدريجيًا من معظم محتواه الفكري والروحي الذي يربطه بالإسلام، كتعظيمه للشرع الشريف، وحمله هم الأمة، واهتمامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرته على الدين، والتعلق بأسلاف الأمة من مختلف الطبقات، بل وصلنا لزمان لا يعرف فيه المسلم القليل عن سيرة المصطفى ولا تعرف فيه ما هي سورة الإخلاص، بينما يحفظ شباب المسلمين سير لاعبي الكرة والفنانين ويعلقون صورهم الشخصية في أرجاء بيوتهم، ولم يبق للمسلمين من إسلامهم إلا شعائر يقيموها، أو عادات يلتزمون بها، إما إضطرارًا أو اختيارًا، في خطة محكمة لخلق إسلام موازي، يلتزم الصمت ويدور مع العالم حيث دار، وفي كل خطوة يفقد المسلمون معنى أخر من هذه المعاني، التي تبني حقيقة إيمان المؤمن، في نقض لعرى الدين أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:"لتنقضن عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهم نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة".
وفي طريق نقض عروة الحكم وما بعدها، يفتح الباب لإبليس وأعوانه من شياطين الإنس والجن، في إيقاع التباغض والتحاقد بين المسلمين، حتى صار الواقع في الكثير من بلاد المسلمين أن يقتل المسلم أخوه المسلم، باسم حزبية سياسية أو مذهبية أو عرقية، وكأنها جاهلية جديدة تصيب المسلمين بعدما قضى الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم على الجاهلية الأولي. والأعجب من ذلك ألا تجد مسلمًا ينكر هذا الواقع، بل تجد المسلمين يتحيزون لهذا أو يعينون ذلك، وإذا ذكرتهم بأن هذا وذاك من أهل القبلة لم يردعهم هذا عن الخوض فيهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بل إن عروة الصلاة والتي هي أخر العرى صارت على وشك نقضها كذلك، ففي زماننا صرنا نسأل عن المسلم هل يصلي أم لا ؟ وكأنه أمر عادي أن يكون مسلمًا ولا يصلي، أو مسلمًا ولا يصوم، أو مسلمًا وينكر معلومًا من الدين بالضرورة، وهذا كله مشير لقرب نقض عروة الصلاة بالكلية إذ أن الصلاة عماد الدين فلا تنقض حتى يهدم هذا البناء شيئًا فشيئًا ولا يبقى منه إلا عماده فيهدم كذلك إعلامًا بالدخول في تحولات أخر الزمان.
أما الشأن الأهم في التعامل مع هذا الواقع وهذه التحولات، والذي من أجله تحرك الباعث للكلام في هذا الأمر، هو خطاب العلماء والدعاة وطلاب العلم، الذي يتجاهل واقع الأمة وكأننا نتكلم عن أمة أخرى، وينشغل إما بالكلام عن السياسة بعين المؤيد المتحزب، أو بالدفاع عن مذهب ومشرب ضيق في وجه مخالفيه من أهل القبلة، أو في الانشغال بمسائل بعيدة تمامًا عن واقع الأمة وليست من واجب الوقت بحال.
فيا مشايخ الدين، يا علماء المسلمين، يا طلاب العلم، يا أهل الطريق: أين أنتم مما يحدث في الأمة؟
أين أنتم من الشباب والأجيال التي تنشأ في هذه الظروف؟
أين أنتم من عرى الدين التي تنقض عروة فأخرى ؟
أين أنتم من العمل على إحياء إيمان عوام المسلمين؟
أين أنتم من القيام بواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنك؟
أين أنتم من الإصلاح بين المسلمين؟
أين أنتم من السعي في قضاء حوائج فقراء الأمة ومساكينها؟
أين أنتم من القرى والنجوع التي لا يعرف فيها من هو محمد رسول الله؟
أين أنتم من الدعوة للعدل ورفع الظلم في بلاد المسلمين؟
اسئلة تخطر على بال الكثير، ولكن لا يفكر فيها مليًا إلا القليل، ولا يتكلم بها إلا النادر. كفانا مجاملة لبعضنا البعض ولنعلم أن المسؤولية على عاتق كل من تعلق بالعلم والطريق عظيمة، ولا يليق معها مجاملة أو تغافل، قد يكون سببًا في الإضرار بالمسلمين، بل إني أقول أن السكوت على مواطن القصور بين أهل العلم والطريق وبعضهم البعض مصيبة كبرى، تتعدى أشخاصهم الكريمة بكثير، ويمتد أثرها لكل الأمة. والنقد كما قلنا لا يعني النقض، فالنقد بناء والنقض هدم، ولكن بدون النقد يقع النقض لا محالة، وهذا ما يقوله لنا الواقع.
كبرت وعظمت الفجوة بين أئمة الدين وعوام المسلمين حتى صار الخطاب الديني بينه وبين الناس ألف حجاب، وهذا كان من أعظم أسباب ضعف الإيمان المعبر عنه بالوهن، إذ أن العلماء كانوا وما زالوا سبب تجديد الإيمان في قلوب الخلق، وهذا من سنن الله التي لن تتبدل ولن تتحول.
وليس القصد إلقاء سبب الوهن بالكلية على عاتق أهل العلم والطريق، فالأسباب معقدة وكثيرة ولا يتسنى الكلام عليها في مثل هذا المقام، ولكن هذا السبب يمكننا مواجهته مباشرة، وسبل العمل عليه أيسر من غيره، لو اعترفنا بوجود النقص وأخصلنا في الإصلاح. والحقيقة أن شيخنا الشيخ أكرم رحمه الله وقدس سره كان يكثر الإتمام بهذه المسألة في ميدان الطريق، وكان يدعو كثيرًا لنقد الذات والعمل على الإصلاح الداخلي قبل مخاطبة الغير، ولكنه كان كلامًا لم يلقى الكثير من القبول لأنه مخالف للهوى، والحمد لله على كل حال.
وكما يجب على أهل العلم والطريق العمل على هذا النقد البناء والإصلاح الداخلي فهو يجب كذلك على كل مسلم في موقعه، لأن إصلاح الأمة عمل يحتاج لتكاتف الجميع وإخلاص الجميع، وإنما هذه المقالة بداية نرجو من الله أن تحرك شيئًا في قلب من يقرأها، يبعثه على إعادة النظر في توجهاته ومقاصده، ونحن نسعى علي قدرنا والله يُعطي على قدره، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبارك في جميع أهل لا إله إلا الله، وأن يدفع عن الأمة هذه البلايا والزلازل والمحن في خير ولطف وعافية، إنه ولي ذلك والقادر عليه آمين.
شارك المحتوي